أخي وأستاذي الدكتور طارق الغندور
تحية من عندالله مباركة طيبة، وبعد..
أكتب إليك، اليوم، وقد مر عام على صعود روحك الطاهرة إلى باريها، متمنياً على الله أن تكون قد استرحت، وأن الرفيق الأعلى الذي طالما حدثتنا عنه، وحببتنا فيه، وشوقتنا إلى لقائه، قد أكرم وفادتك، ولقيك راضياً غير غضبان، واستحيى أن يعذب شيبتك التي شابت في العبادة والقرآن، وإرشاد الناس إلى الخير، وحداء أرواحهم إلى كتابك، فلم ألق أحداً في حياتي تلميذاً للقرآن مثلما كنت.
أكتب إليك لأستشيرك، ماذا أقول للناس عنك في ذكرى رحيلك؟
هل أحدثهم عن بكائي يومها، حتى شرقت بالدمع، وأنا الذي لا أبكي بسهولة؟ عن صدمتي إذ علمت بوفاتك سجيناً مظلوماً، مريضاً نازفاً مهملاً، وأنت الذي لم تهمل مريضاً أتاك في أي من عياداتك التي كانت قبلة للمرضى والمستغيثين؟ أم أحدثهم عن بكائي، الآن، وأنا أكتب هذه السطور، لاستعادتي الشعور المؤلم بأنني لن أراك ثانية في دنيا الناس؟؟ وقد كانت رؤياك مما يبعث السرور والرضا لكل من يلقاك، وتطالعه ابتسامتك الحلوة الدائمة؟
أم أحدثهم عن تفاصيل حبسك الظالم، واعتداء التجريدة الأمنية على حرمة بيتك، واستيلائهم على أموال وممتلكات لك، ثم الحكم الجائر بالحبس خمس سنوات، لم يتركك الله تكمل منهم واحدة، فاختارك إلى جواره، ولما ينتصف عقدك السادس من العمر؟
هل أحدثهم عن الطبيب الكبير، أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية بكلية الطب جامعة عين شمس، المميز بعلمه، ممارساً وباحثاً، مدرساً وطبيباً وجراحاً؟ وهل يجهلك جاهل؟ بل هل يعرفك حقاً من يظن أنه يفعل؟ أما أنا، فأحسبني أعرفك حقاً، وإنني لأريد أن أتحدث عنك، فهلا سمحت لي؟
أريد أن أحكي عن هذه الروح التي لم ألق لها مثيلاً في دنيا الناس، الروح التي تشعر بعد دقائق من التعامل معها أنك تعرفها منذ زمن طويل، وأن لا كلفة بينكما، وأنك أمام قلب صبي، ونفس لا تشيب، نفس تألف وتؤلف، ووجه لا تفارقه الابتسامة الحلوة العذبة، وإن كنت لم أره يوماً مستجمعاً ضاحكاً قط، فلا يمكن أن ترى "لهواته"، وإنما كان يضحك في تبسم، وتتسع ابتسامته حتى تغمرك، وتشمل الكون من حولك.
كما أريد أن أحكي عن رجل القرآن، الذي حببني فيه، ورغبني في حفظه، والذي علمنا "كيف تحفظ القرآن فلا تنساه، وإن حاولت!" والذي كان يتهجد بالناس في العشر الأواخر، فيضرب في ثلاثة أجزاء في الليلة الواحدة، لا تمسك عليه خطأ وحيداً. وتشعر وأنت معه أن القرآن لا يفارقه، فهو "معجون" به –إن جاز التعبير- وقّاف عنده، مستن بسنته، متخلق إلى درجة كبيرة بأخلاقه.
أما ما كنت أحبه، خصوصاً لملاقاته هواي، فقد كان ثقافتك العربية، وغرامك بالشعر والأدب واللغة، وذكاءك اللغوي الحاد، الذي لم يكن يترك كلمة تقال دون رد "حارق"، يراعي نظيرها، في قدرة عالية على "القافية" كما نسميها في العامية المصرية، يجلس المرء معك، فكأنه بين دفتي كتاب من كتب التراث، اجتمع فيه نوادر العرب، مع الحكم، والقصص والأمثال، تتلوها في استرسال لا يعرف التلجلج، ولا يعرف معه جليسك السأم.
وكنا نختلف كثيراً! فهل تذكر خلافاتنا؟
كنت تسمح لنا أن نختلف معك، ونجادلك، خصوصاً أنا وأخي محمد عفان، وكنا نحتد ونلج في الخلاف، وبيننا وبينك نحو عشرين عاماً، من رآنا قال عنا أقراناً، ثم نكتشف أنك تستخدم آراءنا بحججنا في كلامك، وقد اقتنعت بها، فإذا سألناك عن هذا داهشين قلت بابتسامتك الحلوة: إنما أتعلم منكما!
قتلوك يا أستاذنا.
قتلوا ابتسامة كانت تسع الكون كله!
(مصر)
تحية من عندالله مباركة طيبة، وبعد..
أكتب إليك، اليوم، وقد مر عام على صعود روحك الطاهرة إلى باريها، متمنياً على الله أن تكون قد استرحت، وأن الرفيق الأعلى الذي طالما حدثتنا عنه، وحببتنا فيه، وشوقتنا إلى لقائه، قد أكرم وفادتك، ولقيك راضياً غير غضبان، واستحيى أن يعذب شيبتك التي شابت في العبادة والقرآن، وإرشاد الناس إلى الخير، وحداء أرواحهم إلى كتابك، فلم ألق أحداً في حياتي تلميذاً للقرآن مثلما كنت.
أكتب إليك لأستشيرك، ماذا أقول للناس عنك في ذكرى رحيلك؟
هل أحدثهم عن بكائي يومها، حتى شرقت بالدمع، وأنا الذي لا أبكي بسهولة؟ عن صدمتي إذ علمت بوفاتك سجيناً مظلوماً، مريضاً نازفاً مهملاً، وأنت الذي لم تهمل مريضاً أتاك في أي من عياداتك التي كانت قبلة للمرضى والمستغيثين؟ أم أحدثهم عن بكائي، الآن، وأنا أكتب هذه السطور، لاستعادتي الشعور المؤلم بأنني لن أراك ثانية في دنيا الناس؟؟ وقد كانت رؤياك مما يبعث السرور والرضا لكل من يلقاك، وتطالعه ابتسامتك الحلوة الدائمة؟
أم أحدثهم عن تفاصيل حبسك الظالم، واعتداء التجريدة الأمنية على حرمة بيتك، واستيلائهم على أموال وممتلكات لك، ثم الحكم الجائر بالحبس خمس سنوات، لم يتركك الله تكمل منهم واحدة، فاختارك إلى جواره، ولما ينتصف عقدك السادس من العمر؟
هل أحدثهم عن الطبيب الكبير، أستاذ الأمراض الجلدية والتناسلية بكلية الطب جامعة عين شمس، المميز بعلمه، ممارساً وباحثاً، مدرساً وطبيباً وجراحاً؟ وهل يجهلك جاهل؟ بل هل يعرفك حقاً من يظن أنه يفعل؟ أما أنا، فأحسبني أعرفك حقاً، وإنني لأريد أن أتحدث عنك، فهلا سمحت لي؟
أريد أن أحكي عن هذه الروح التي لم ألق لها مثيلاً في دنيا الناس، الروح التي تشعر بعد دقائق من التعامل معها أنك تعرفها منذ زمن طويل، وأن لا كلفة بينكما، وأنك أمام قلب صبي، ونفس لا تشيب، نفس تألف وتؤلف، ووجه لا تفارقه الابتسامة الحلوة العذبة، وإن كنت لم أره يوماً مستجمعاً ضاحكاً قط، فلا يمكن أن ترى "لهواته"، وإنما كان يضحك في تبسم، وتتسع ابتسامته حتى تغمرك، وتشمل الكون من حولك.
كما أريد أن أحكي عن رجل القرآن، الذي حببني فيه، ورغبني في حفظه، والذي علمنا "كيف تحفظ القرآن فلا تنساه، وإن حاولت!" والذي كان يتهجد بالناس في العشر الأواخر، فيضرب في ثلاثة أجزاء في الليلة الواحدة، لا تمسك عليه خطأ وحيداً. وتشعر وأنت معه أن القرآن لا يفارقه، فهو "معجون" به –إن جاز التعبير- وقّاف عنده، مستن بسنته، متخلق إلى درجة كبيرة بأخلاقه.
أما ما كنت أحبه، خصوصاً لملاقاته هواي، فقد كان ثقافتك العربية، وغرامك بالشعر والأدب واللغة، وذكاءك اللغوي الحاد، الذي لم يكن يترك كلمة تقال دون رد "حارق"، يراعي نظيرها، في قدرة عالية على "القافية" كما نسميها في العامية المصرية، يجلس المرء معك، فكأنه بين دفتي كتاب من كتب التراث، اجتمع فيه نوادر العرب، مع الحكم، والقصص والأمثال، تتلوها في استرسال لا يعرف التلجلج، ولا يعرف معه جليسك السأم.
وكنا نختلف كثيراً! فهل تذكر خلافاتنا؟
كنت تسمح لنا أن نختلف معك، ونجادلك، خصوصاً أنا وأخي محمد عفان، وكنا نحتد ونلج في الخلاف، وبيننا وبينك نحو عشرين عاماً، من رآنا قال عنا أقراناً، ثم نكتشف أنك تستخدم آراءنا بحججنا في كلامك، وقد اقتنعت بها، فإذا سألناك عن هذا داهشين قلت بابتسامتك الحلوة: إنما أتعلم منكما!
قتلوك يا أستاذنا.
قتلوا ابتسامة كانت تسع الكون كله!
(مصر)