عند السادسة والنصف صباحاً، في أجواء باردة جداً قبل سطوع الشمس على كورنيش المنارة البحري في العاصمة اللبنانية بيروت، قد لا يكون المشي والركض والتنزه في المكان الممتد رصيفه بطول خمسة كيلومترات ملائماً. مع ذلك، هناك من يفعلون ذلك، بل من يفعلون أكثر بكثير منه... السباحة في بحر قد تصبح أمواجه جبالاً، وتصل برودته إلى مستوى الثلج.
يسرع عامر (38 عاماً) في إنزال بقية الأغراض من السيارة. بات مقعد الكورنيش الحجري المزخرف بلمسة فنية تفرد مساحة فيه للوحة مربعات سوداء وبيضاء للعب الشطرنج والداما جاهزاً. وضع فوقه الكثير من سندويشات الجبنة واللبنة والمرتديلا التي يتجاوز عددها المائة. لا يغيب عن الوليمة الصباحية التفاح والليمون، بالإضافة إلى قوارير ماء، وإبريق شاي ساخن، وأكواب بلاستيكية. هي زوّادة مجموعة من السباحين الشتويين هناك. يقفزون من فوق الدرابزين المعدني إلى الصخور أسفل الكورنيش ولا يتوقفون عن السباحة حتى تحت الأمطار... بل إنّ بعضهم لا يتوقف حتى عندما تتجاوز الأمواج الصخور وتصل إلى الشارع الرئيسي الذي يعلو مياه البحر بأربعة أمتار.
اليوم دور عامر في تجهيز الترويقة التي يسرع إليها السباحون بعد انتهاء جولتهم وارتداء ملابسهم. غداً دور فرد آخر منهم... وهكذا. لا يعلّق أبو إبراهيم (62 عاماً) حول سباحته في الشتاء بأكثر من "عادي... بل أشعر أنني غلط إذا لم آتِ". يعترف أنّه في الأيام العاصفة جداً لا يأتي "لكنّ هذه الأيام لا تتعدى عشرة ربما في السنة كلها". هذا "العادي" يتحول بالنسبة إلى زوجته التي تنتظره على الرصيف إلى "جنون... لا أعرف كيف يستمتع بالبرد!".
أبو طلال وهو من المشاركين في السباحة والترويقة معاً يخفي عمره الحقيقي. يؤكد أحدهم أنّه تجاوز السبعين. لكنّ الرجل يعترف أنّ التقدم في السن لا يظهر على أبو طلال بسبب مواظبته على الرياضة، خصوصا السباحة في البرد. من جهته، يقول أبو طلال: "لا أذكر أنّي توقفت يوماً واحداً عن المجيء إلى الكورنيش. وحتى حين لا أتمكن من السباحة بسبب الأمواج الجبال آتي للمشي والركض ولو كانت الدنيا قايمة قاعدة"، يقصد أنه حتى لو كانت الأجواء عاصفة.
في مسبح الجامعة الأميركية، الذي يفتح بابه للجميع خارج موسم الصيف، يتجمّع كثير من هواة السباحة والصيد والغطس. لكنّ بعض المجموعات لا تبدي كثير اهتمام بذلك. هؤلاء من لاعبي كمال الأجسام، الذين كلّ همّهم الشمس التي يستجدون منها لوناً أسمر لعضلاتهم ينفع في استعراضاتهم. يأتي هؤلاء عند الظهر غالباً في الأيام المشمسة حصراً، خصوصاً في شهر فبراير/شباط الذي "شبط ولبط ورائحة الصيف فيه". أحدهم عبد الرحمن الذي يقول إنّه يأتي إلى المكان "من الملل، فلا شيء أفعله غير النادي (مركز التدريب) مساء، كما أنّي لست من هواة المقاهي". يختصر الكلام: "في كلّ الأحوال الشمس حلوة".
وُفّق الشبان الغطاسون اليوم بصيد ثمين، أخطبوط كبير الحجم بنّي اللون. يشير أحدهم إلى أنّه اصطاده ببندقية البحر على مسافة قريبة من الشاطئ الصخري. لذلك، يعتبر نفسه اكتفى اليوم: "هذه أول مرة أصطاد فيها أخطبوطاً بهذا الحجم... وزنه أربعة كيلوغرامات تقريباً".
على الرغم من أنّ هذه المساحات ذكورية بامتياز، فإنّها تستقبل أحياناً بعض الإناث، خصوصاً من السائحات الأوروبيات. حالة الشابة نور (16 عاماً) مختلفة، إذ تتدرب مرتين أسبوعياً على سباحة المسافات الطويلة. ترتدي بذلة غطس تحميها نوعاً ما من البرد، يرافقها مدربها الذي يمنع أيّاً كان من الاقتراب منها، ولو أنّها لا تمانع أن يلتقط لها الشبّان هناك صوراً. هي تأخذ الأمور ببساطة لا أكثر... وربما تتدرب على شهرة قد تأتي يوماً ما.
خارج المساحات المشمسة، خصوصاً في الصباح الباكر، تُحرّك الشبّان عادة نوازع أخرى بعيدة عن الرياضة وشدّ الجسم، والغطس. هم ببساطة، يحبّون التباهي، ومعه دائماً التحدّي الشخصي. هذا ما يقوله مازن (20 عاماً) على الأقل، وهو الذي جاء مع صديقه في يوم بارد جداً في جوّه ومياه بحره. لكنّه يعلّق: "كاد قلبي يتوقف". البث المباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتيح للشابين المباهاة أبعد ما يستطيعون، خصوصاً مع تعليقاتهما الساخرة من أصدقائهما "البردانين المتدثرين في أغطيتهم... الذين يشعلون الدفّايات".
كثيرون هم من يهوون السباحة شتاء. لا يقتصر الأمر على صخور كورنيش المنارة أو الروشة أو الرملة البيضاء في بيروت بل يمتد إلى المدن الأخرى، خصوصاً أنّ درجة حرارة الساحل اللبناني لا تتدنى في أسوأ الأحوال تحت الصفر. وبين من يملكون إجابات غامضة حول تلك العادة وذلك الهوى الذي يتملّك منهم، يملك آخرون إجابات واثقة. منها ما يذهب إليه عبد الله (43 عاماً): "الاغتسال بالماء البارد مذكور في روايات السلف الصالح لما فيه من فوائد، وقبل كلّ شيء هو مذكور في القرآن الكريم، إذ دعا الله تعالى النبي أيوب الذي كان في غاية الوهن والمرض إلى مغتسل بارد وشراب".
اقــرأ أيضاً
يسرع عامر (38 عاماً) في إنزال بقية الأغراض من السيارة. بات مقعد الكورنيش الحجري المزخرف بلمسة فنية تفرد مساحة فيه للوحة مربعات سوداء وبيضاء للعب الشطرنج والداما جاهزاً. وضع فوقه الكثير من سندويشات الجبنة واللبنة والمرتديلا التي يتجاوز عددها المائة. لا يغيب عن الوليمة الصباحية التفاح والليمون، بالإضافة إلى قوارير ماء، وإبريق شاي ساخن، وأكواب بلاستيكية. هي زوّادة مجموعة من السباحين الشتويين هناك. يقفزون من فوق الدرابزين المعدني إلى الصخور أسفل الكورنيش ولا يتوقفون عن السباحة حتى تحت الأمطار... بل إنّ بعضهم لا يتوقف حتى عندما تتجاوز الأمواج الصخور وتصل إلى الشارع الرئيسي الذي يعلو مياه البحر بأربعة أمتار.
اليوم دور عامر في تجهيز الترويقة التي يسرع إليها السباحون بعد انتهاء جولتهم وارتداء ملابسهم. غداً دور فرد آخر منهم... وهكذا. لا يعلّق أبو إبراهيم (62 عاماً) حول سباحته في الشتاء بأكثر من "عادي... بل أشعر أنني غلط إذا لم آتِ". يعترف أنّه في الأيام العاصفة جداً لا يأتي "لكنّ هذه الأيام لا تتعدى عشرة ربما في السنة كلها". هذا "العادي" يتحول بالنسبة إلى زوجته التي تنتظره على الرصيف إلى "جنون... لا أعرف كيف يستمتع بالبرد!".
أبو طلال وهو من المشاركين في السباحة والترويقة معاً يخفي عمره الحقيقي. يؤكد أحدهم أنّه تجاوز السبعين. لكنّ الرجل يعترف أنّ التقدم في السن لا يظهر على أبو طلال بسبب مواظبته على الرياضة، خصوصا السباحة في البرد. من جهته، يقول أبو طلال: "لا أذكر أنّي توقفت يوماً واحداً عن المجيء إلى الكورنيش. وحتى حين لا أتمكن من السباحة بسبب الأمواج الجبال آتي للمشي والركض ولو كانت الدنيا قايمة قاعدة"، يقصد أنه حتى لو كانت الأجواء عاصفة.
في مسبح الجامعة الأميركية، الذي يفتح بابه للجميع خارج موسم الصيف، يتجمّع كثير من هواة السباحة والصيد والغطس. لكنّ بعض المجموعات لا تبدي كثير اهتمام بذلك. هؤلاء من لاعبي كمال الأجسام، الذين كلّ همّهم الشمس التي يستجدون منها لوناً أسمر لعضلاتهم ينفع في استعراضاتهم. يأتي هؤلاء عند الظهر غالباً في الأيام المشمسة حصراً، خصوصاً في شهر فبراير/شباط الذي "شبط ولبط ورائحة الصيف فيه". أحدهم عبد الرحمن الذي يقول إنّه يأتي إلى المكان "من الملل، فلا شيء أفعله غير النادي (مركز التدريب) مساء، كما أنّي لست من هواة المقاهي". يختصر الكلام: "في كلّ الأحوال الشمس حلوة".
وُفّق الشبان الغطاسون اليوم بصيد ثمين، أخطبوط كبير الحجم بنّي اللون. يشير أحدهم إلى أنّه اصطاده ببندقية البحر على مسافة قريبة من الشاطئ الصخري. لذلك، يعتبر نفسه اكتفى اليوم: "هذه أول مرة أصطاد فيها أخطبوطاً بهذا الحجم... وزنه أربعة كيلوغرامات تقريباً".
على الرغم من أنّ هذه المساحات ذكورية بامتياز، فإنّها تستقبل أحياناً بعض الإناث، خصوصاً من السائحات الأوروبيات. حالة الشابة نور (16 عاماً) مختلفة، إذ تتدرب مرتين أسبوعياً على سباحة المسافات الطويلة. ترتدي بذلة غطس تحميها نوعاً ما من البرد، يرافقها مدربها الذي يمنع أيّاً كان من الاقتراب منها، ولو أنّها لا تمانع أن يلتقط لها الشبّان هناك صوراً. هي تأخذ الأمور ببساطة لا أكثر... وربما تتدرب على شهرة قد تأتي يوماً ما.
خارج المساحات المشمسة، خصوصاً في الصباح الباكر، تُحرّك الشبّان عادة نوازع أخرى بعيدة عن الرياضة وشدّ الجسم، والغطس. هم ببساطة، يحبّون التباهي، ومعه دائماً التحدّي الشخصي. هذا ما يقوله مازن (20 عاماً) على الأقل، وهو الذي جاء مع صديقه في يوم بارد جداً في جوّه ومياه بحره. لكنّه يعلّق: "كاد قلبي يتوقف". البث المباشر عبر مواقع التواصل الاجتماعي يتيح للشابين المباهاة أبعد ما يستطيعون، خصوصاً مع تعليقاتهما الساخرة من أصدقائهما "البردانين المتدثرين في أغطيتهم... الذين يشعلون الدفّايات".
كثيرون هم من يهوون السباحة شتاء. لا يقتصر الأمر على صخور كورنيش المنارة أو الروشة أو الرملة البيضاء في بيروت بل يمتد إلى المدن الأخرى، خصوصاً أنّ درجة حرارة الساحل اللبناني لا تتدنى في أسوأ الأحوال تحت الصفر. وبين من يملكون إجابات غامضة حول تلك العادة وذلك الهوى الذي يتملّك منهم، يملك آخرون إجابات واثقة. منها ما يذهب إليه عبد الله (43 عاماً): "الاغتسال بالماء البارد مذكور في روايات السلف الصالح لما فيه من فوائد، وقبل كلّ شيء هو مذكور في القرآن الكريم، إذ دعا الله تعالى النبي أيوب الذي كان في غاية الوهن والمرض إلى مغتسل بارد وشراب".