صوفيا ..عاصمة الكنائس والجبل المقدس

06 يناير 2015
كنيسة القديسة صوفيا (Getty)
+ الخط -
يخيل إليّ، وأنا أجول في شوارع صوفيا، أني أسير في معبد مترامي الأطراف، وأنّ البلغاريين هم أكثر الشعوب الأوروبية إيماناً بالله. 

أغلب أسمائهم أخذوها عن القديسين والقديسات، ومعظم أعيادهم ورثوها عن طقوسهم الدينية، وأينما نظرت، أرى الكنائس القديمة تتأملني بعينيها المسالمتين، حتى إن اسم العاصمة، أطلقه عليها القيصر البلغاري إيفان شيشمان في القرن الرابع عشر، تيمّناً بـ "القديسة صوفيا" رمز المدينة، واسم ثاني أقدم كنيسة فيها، شُيدت إبان عهد الإمبراطور البيزنطي جستينيان الأول في القرن السادس الميلادي.

قبل ذلك، كانت العاصمة البلغارية منذ القرن العاشر تُدعى "سرديتس"، أمّا حين بناها أجدادها التراقيون في القرن الثامن قبل الميلاد، فقد سموها "سرديكا".

تنبسط صوفيا على سهل تحوطه جبال فيتوشا وستارا بلانينا ولوزنسكا، وتبلغ مساحتها 1344 كلم²، وعدد سكانها 1.3 مليون نسمة، وهي بذلك ليست واحدة من أكبر عواصم أوروبا، ولا أكثرها اكتظاظاً بالناس، ومع ذلك فهي تضمّ ما يزيد عن مئتي كنيسة، وأكثر من أربعين ديراً، أغلبها يقع على المرتفعات الجبلية، ويشكّل ما يُعرف بـ"الجبل المقدّس"، وهو مركز استقطاب روحي وسياحي، من أديرته المتاحة للزيارة اليوم: دير "دراغاليفسكي"، "غيرمانسكي"، "كريميكوفسكي"، "تشيرِبيشكي" ودير "أوسينوفلاشكي".

ليس المسيحيون وحدهم من يقطنون صوفيا، مع أنّهم يشكّلون غالبية سكان بلغاريا، أي ما يعادل 84% من البلغار، وهم من أتباع الكنيسة الأرثوذكسية الشرقية. هناك نحو 3% من المسيحيين الكاثوليك، والبروتستانت، و13% من المسلمين، 0.1% من اليهود.

ويجمع مركز العاصمة بين دور أديان التوحيد بتنوّع معماري وثقافي وتاريخي، قد لا نجده في أي من المدن الأوروبية الأخرى. ففي الرقعة المستطيلة الفاصلة بين المكتبة الوطنية "كيرل إي ميتودي" والسوق المقبي "خاليته"، التي أعتقد أنّ طولها لا يتجاوز الثلاثة كيلومترات، لأني أقطعها سيراً على الأقدام، في هذه الرقعة أمرّ بجوار ما لا يقلّ عن عشر كنائس، وجامع وكنيس.

أنزل من الترامواي، وأول من ألقي تحيتي عليها، هي كاتدرائية "القديس ألكسندر نيفسكي"، واحدة من أكبر الكنائس الأرثوذكسية الشرقية في العالم، وثاني أكبر كنيسة في شبه جزيرة البلقان، وأحد أهم المعالم الأثرية والسياحية في صوفيا. قام بتصميمها المهندس المعماري الروسي ألكسندر بوميرانتسيف، وبُنيت في العام 1912، تخليداً لذكرى مئتي ألف جندي روسي وبلغاري وأوكراني، قضوا في حرب تحرير بلغاريا من السيطرة العثمانية في العام 1878.

تبلغ مساحة الكاتدرائية 3170 متراً مربعاً، وتتسع لـ 5000 شخص، جدرانها الخارجية مكسوّة بالحجر الأبيض، وأبوابها مصنوعة من خشب البلوط، وقبابها ملبّسة بالذهب الذي يجذب بريقه العين عن مسافة عدة كليومترات. برج الأجراس فيها يرتفع إلى 53 متراً، ويضم 12 جرساً، أكبرها يزن 10 أطنان، وأصغرها 10 كلغ، ويُسمع رنينها عن بعد 15 كيلو متراً. تزيّنها من الداخل الرخاميات، ورسوم الميلاد والصلبان، والأيقونات، وفسيفساء جدارية للملكة إليونورا والملك فرديناند الذي حكم بلغاريا بين عامي (1887-1918)، وفي سردابها معرض دائم لفن الأيقونة الأرثوذكسية.

دخلت الكاتدرائية قبل ثلاثة عقود مع صديقي الفلسطيني الذي أشار بيده يومها إلى رسوم القبة والجداريات، وقال: "هذه فلسطين"، تأمّلتها مفتونة، ولأجل عينيها أشعلتُ شمعتي. لم يمضِ شهر حتى أُعلنت الدولة الفلسطينية في المنفى. هاتفني صديقي والفرح يقفز من صوته، قال: "أنت أول من سنمنحه الجنسية". ضحكت ولم يخطر في بالي أني سأشيخ قبل أن يحلّ السلام، وأتجوّل في أحياء بيت لحم والقدس، بل وحتى التسكع في أحياء دمشق القديمة، سيغدو واحداً من أحلامي.

أقطع المستطيل الذي قطعته مئات المرات في شبابي، كمن يقطع سواتر الزمن، وأحياناً أشعر أني أدخل الماضي، حينها لم أكن أكترث بتاريخ المدينة ومعالمها الروحية، كنت مشغولة بالحاضر وتحقيق ذاتي. أعيش الحب بكل درجاته وألوانه وأسمائه الحسنة، وحين يعذّبني، أشعل الشموع لسيد المحبة والسلام، والكنائس كثيرة على دربي، دخلت منها: "القديسة صوفيا"، و"القديس نيكولاي"، و"القديسة بيتكا سمرجيسكا"، و"القديس غيورغي"، والكاتدرائية الكاثوليكية "القديس يوسف"، وكنيسة "القديسة نيديليا".

أصلُ الجامع الوحيد في العاصمة "بانيا باشي"، ويعني "الحمامات الكثيرة"، لأنّه يقع على عدة برك قديمة، وهو مبني على طراز العمارة العثمانية. شيّده المهندس التركي سنان في العام 1576، بدعم مالي من الملا كادا سيف الله، وهو يشتهر بقبته الضخمة، ومئذنته الطويلة المخروطية، ويتسع صحنه لـ 8614 مصلّياً.

حين كنت طالبة في جامعة صوفيا، كان الجامع مغلقاً، وحين رحلت الشيوعية، فتح أبوابه للمصلّين. واليوم أمرّ به، ولا أستطيع دخوله بسفوري، أكتفي بالجلوس في أحد المقاهي القريبة منه، وأصغي لصوت المؤذن الجميل، وهو يرفع الصلاة، وللأذان طعم الحنين في البلد الغريب.

أدير ظهري للجامع، أقطع الشارع، أتجاوز "الخاليته"، ويقابلني الكنيس، واجهته الخارجية مليئة بالزخارف التشكيلية والمنحوتات الحجرية، وهو الوحيد في صوفيا، وأكبر كنيس ليهود السفارديم في أوروبا، بُني في العام 1909، ويتّسع لـ 1170 حاجاً، ويُقال إنّه يحوي أضخم ثريا في بلغاريا بوزن (2 طن)، وإنّ أرضيته مغطاة بفسيفساء من مدينة البندقية. أثناء دراستي، لم أعلم بوجوده، وحين لفتني بناؤه الضخم ونجمته السداسية، وأنا أخرج من السوق العربي، كان يوم السبت، وكانت أبوابه مغلقة. وقفت في قلب المثلّث، الذي ترسم أضلاعه عيون الكنيس والجامع والكنيسة، نظرت إلى السماء برجاء واحد، أن تنتهي الحرب في بلدي، ويقّتص القضاء من كل الطغاة والمجرمين.
المساهمون