في بعض الأحيان، تكون طريق العودة من المكان، أيّ مكان، مثل إعادة مشاهد من فيلم لطالما شاهدته وحفظت كلّ تفاصيله، حتى المشاهد الضبابية في خلفية المشهد الرئيس. مشاهد باتت كفيلم ثانٍ موازٍ للفيلم الأساسي، يحكي قصصاً أخرى لتجارب مختلفة.
الأماكن ليست بالضرورة شوارع أو أدراجاً أو غرفاً. هي أحياناً أحلام يقظة. قد تكون عودة إلى الماضي من خلال صورة قديمة أو مرحلة ما، لها وقعها في ذاكرتي أو ربّما صوت.. مجرّد صوت.
في رحلة عودتي من أيّ مكان أو ذهابي إليه، تعوّدت على تلك المشاهد المتكررة، على الأصوات والروائح المنبعثة من ذلك المكان، حتى التخيّلات والأفكار تكون نفسها. لذا، في بعض الأحيان، أغيّر طريق العودة حتى لا تلاحقني الأشياء نفسها. أتركها تنتظرني إلى حين عودتي المقبلة.
خلال عودتي الأسبوعية من القرية التي ترتفع عن سطح البحر أكثر من 400 متر وتبعد عن بيروت نحو 70 كيلومتراً، والتي تستمر رحلتي إليها نحو ساعة وربع الساعة في حال لم أعلق في زحمة سير، وهذا أمر من المستحيلات، تبدأ الأشياء والذكريات بالتسرّب إلى داخل السيارة كأنّما هي أشبه بركاب يصعدون إلى سيارة أجرة أو ينزلون منها، على الخطّ. في كلّ منطقة على الطريق الساحلي، وأنا أتّجه شمالاً إلى بيروت، ثمّة ذاكرة... أغنية سمعتها مع أبي في صغري، أو عطل في السيارة أجبرني على البقاء ساعات في مكاني قبل أن يحضر أحدهم ويصلحها لعدم توفّر اتصالات حينها. إشارة إلى أنّني كنت أعتمد الطريق القديم في رحلتي. لا تختلف التسرّبات كثيراً عند مروري على الخطّ السريع الذي يرتفع عن الطريق القديم عشرات الأمتار، لكنّه في الوقت عينه يحافظ على المناظر نفسها التي راح يتخللها اجتياح عمراني على التلال المطلة على البحر نفسه الذي غيّر التلوّث لونَه.
دائماً، عند عودتي المسائية وخلال مروري على مقربة من معمل الكهرباء شبه المهترئ، تعود وردة الجزائرية مع أغنية "خلّيك هنا". أتخيّل نفسي في المقعد الخلفي من السيارة بين إخوتي، وقد مللنا تكرارها على مسامعنا. حفظتها غيباً، لتصبح أغاني وردة مع مرور الوقت المفضّلة على مسمعي، رغم صغر سنّي. أكمل رحلتي وأصل إلى مثلّث خلدة، وهو مفترق طرق بين بيروت والجنوب والجبل. في أغلب الأحيان، يكون مزدحماً، فتعود إليّ صورة الحاجز الإسرائيلي الأوّل الذي شاهدته في عام 1982. ذلك الحاجز الذي استبدل تباعاً بحواجز لقوى مختلفة تعرّضت عندها للتفتيش والضرب والإهانة، قبل أن يتحوّل موقعه إلى نفق يصل الجنوب بالعاصمة بيروت.
الإحساس بتلك الأماكن لم يتغيّر، لكنّه مع مرور الوقت سوف تزداد المشاهد والأصوات والروائح لتنضمّ إلى ما سبقها في طريق العودة.