تقف هذه الزاوية من خلال أسئلة سريعة مع وجه جديد في الكتابة العربية، في محاولة لتبيّن ملامح وانشغالات الجيل العربي الجديد من الكتّاب.
■ كيف تفهم الكتابة الجديدة؟
لا أعرفُ إلى أيّ مدى يمكننا الحديث عن كتابة جديدة بالمعنى العميق للكلمة، أيْ بالمعنى الذي يُخرج نعت الكتابة بالجدّة من دائرة زمن تحقّقها إلى دائرة الرؤية الشعريّة الّتي تنبني عليها؛ وفي حال اتّفقنا على تحقّق بعض ملامح هذه الرؤية، أعتقد أنّ الشعرية العربية ماتزال في مُجملها تدور في الأسئلة الّتي طُرحت منذ منتصف القرن الماضي، سواء تعلّق الأمر بالمضامين أو بسجال الأشكال الشعريّة. لذلك، لا معنى بالنسبة إليّ لبعض الوصفات الجاهزة الّتي يقدّمها بعض الشعراء الآن مندفعين وراء شعارات الهدم أو "ما بعد الحداثة" ليسوّغوا عجزهم عن استيعاب الأسئلة الحقيقيّة للشعريّة العربيّة التي لا أنظر إلى حداثتها إلا باعتبارها مشروعاً في مساريْن: الأوّل إعادة النظر في التراث الشعري العربي ومحاولة تقديم أجوبة جديدة عن مسارات تشكّله والمعايير الّتي حدّدت ملامحهُ الإنشائيّة؛ والثاني إعادة قراءة مدوّنة الحداثة العربيّة في إطار التساؤل عن مدى تجاوزها للرؤية التراثيّة لا من حيثُ الأشكال بل من ناحية البُنى المعرفيّة التي تستندُ إليها في إنشاء عوالمها ورؤيتها إلى العالم. وعليه، لا يمكن للكتابة الجديدة، في رأينا، أن تكون جديدة دون انخراطها في هذيْن المساريْن.
■ هل تشعر أنّكَ جزءٌ من جيل أدبي له ملامحه وما هي هذه الملامح؟
نعم ولا. نعم، إذا تعلّق الأمر بالإطار الزمانيّ والمكانيّ؛ ولا، إذا تعلّق الأمر بمحاولة ضبط ملامح واضحة ونهائيّة لجيل ما. وعموماً، في الحديث عن الأجيال الأدبيّة في الساحة العربية، غالباً ما يتداخل التحقيب الزمني مع محاولة تحديد المعايير الّتي تميّزُ جيلاً عن جيل آخر، وهذا أمرٌ مُشكِلٌ عندما يتعلّق السؤال بالكتابة في حدّ ذاتها، فبعض شعراء الحداثة العربيّة مثلاً اعتبروا المتنبّي وأبا تمّامَ أكثر حداثة منهُم، وقد تجدُ بعض من يكتبون الآن تُراثيّين في كتابتهم وفي نظرتهم إلى الجسد والمرأة والمدينة والعالم. لذلك، لا أعتقدُ أنّهُ ثمّة جيل جديد بمعنى المدرسة أو الخصوصيّة المعياريّة، وإنّما ثمّة جيلٌ ما بعدَ هُوويّ لا يؤمنُ بأيّ رؤية جاهزة للكتابة ولا يبذلُ مجهوداً (باستثناء بعض التجارب القليلة) في بناء رؤية أخرى، جيلٌ لا تُحتملُ خفّتهُ، قد تتحوّل الكتابة بالنسبة إليه إلى لعبة فيسبوكية يتسلّى بها كلّما شعُر باليأس أو بحاجة ذاته الهشّة إلى أن تقول: أنا هنا.
■ كيف هي علاقتك مع الأجيال السابقة؟
لا أؤمنُ كثيراً بمقولات القطيعة الّتي لا تنتجُ في بعض الأحيان سوى رؤى تراثيّة معكوسة، وأعتقد أنّ أسلافنا، بالمعنى الواسع للكلمة، يحمحمون في أصواتنا كما قال الكاتب اليونانيّ نيكوس كازانتزاكيس. مع ذلك، لا تنفي هذه الحمحمة أن نكون في صراع دائم معهم، لكنّ هذا الصراع يكون وَهُم في داخلنا لا في محاولتنا الدائمة لجعلهم خارجنا ومقاربة العالم دون معرفة من أين أتينا وإلى أين نريد أن نذهب. لذلك حتّى في بعض المناقشات مع أبناء جيلي حول سؤال الشاعر عن نحت صوته الخاص وتجاوز تأثير بعض شعراء الأجيال السابقة، غالباً ما أقترحُ مزيدَ قراءتها وتشرّبها والانغماس فيها لا التغاضي عنها. لأنّ هذا الانغماس هو الّذي سيبني استفادتنا من منجزاتهم وفهمنا لمفاتيح الكتابة لديهم، وبالتالي فهمنا لممكنات تجاوزهم. وفي الشعرِ نتبيّنُ بالتجربة أنّ الشعراء على اختلاف أجيالهم ينتمون لأسئلة متشابهة لا يتدخّل التاريخ إلّا في تغيير أدواتها الإجرائية.
■ كيف تصف علاقتك مع البيئة الثقافية في بلدك؟
تونس بلدٌ ثريٌّ ثقافيّاً بحُكمِ موقعه وتاريخه، كما أنّهُ يمثّل إحدى الركائز الأساسية لمشروع الحداثة العربية. لكن إذا تجاوزنا المقارنة بين تونس وبعض البلدان العربية الأخرى، وتساءلنا عن مدى تعبير البيئة الثقافية عن هذا الثراء، تكون الإجابة نسبيّة جدّاً. ولا أعتقدُ، رغم الانفتاح السياسيّ ومساحة الحرية التي صارت متوفّرة في البلد، أنّ المشهد الثقافي التونسي الراهن مختلف عن المشهد زمن الحزب الواحد، إن لم أقل أسوأ منه. كلّ ما حدث أنّ أصحاب الأصوات التي انتفضت ضد السلطة صاروا موظّفين لديها وخادمين لمشروعها. لذلكَ بالقدر الذي أنتمي فيه إلى تونس المثقّفة والمتنوّعة والحديثة، لا أستطيعُ الانتماء إلى ما تنتجه السلطة التي لطالما مثّلت تونس بالنسبة إليها مجرّد موضوع استثمار ثقافي.
■ كيف صدر كتابك الأول وكم كان عمرك؟
صدر مع "دار ميّارة للنشر"، وهي دار نشر تونسيّة فتيّة يُشرف عليها الصديق الشاعر بلال المسعودي الّذي دعم ومازال يدعم التجارب الجديدة. ولم أكن قد جاوزتُ وقتها التاسعة عشرة.
■ أين تنشر؟
إلى جانب النصوص والمقالات المتفرّقة في الجرائد والمجلّات التونسيّة والعربيّة، نشرتُ أغلب الكتب في دور نشر تونسيّة (ميّارة، رسلان، مسكلياني)، إلى جانب كتاب مع "منشورات المتوسّط". صحيحٌ أنّ انتشار الكاتب مرتبط بأهميّة دُور النشر الّتي يتعامل معها، لكنّ ما يعنيني أكثر في هذا المجال هو احترام حقوق الكُتّاب وجهدهم.
■ كيف تقرأ وكيف تصف علاقتك مع القراءة: منهجية، مخططة، عفوية، عشوائية؟
أعتقدُ أنّ عُمراً واحداً قد لا يكفي إنسان القرن الواحد والعشرين لقراءة كلّ ما يرغبُ في قراءته. لذلك أتعامل مع القراءة وفقاً لقاعدة إنكليزيّة نسيت أين قرأتها، تقول: "لا وقت لقراءة الهُراء" (No time to read Bullshit). لذلك غالباً ما أحاول التركيز على الأهم ثمّ المهمّ على الرغم من مزاجيّتي المزعجة وقراءتي في بعض الأحيان لأكثر من كتاب في الفترة نفسها. يحدث أن لا أقرأ شيئاً لأسبوع أو أسبوعيْن، ويحدث أيضاً أن ألتهم كتاباً ضخماً في ليلة واحدة. وأعتقد أنني في حاجة إلى نظام ما أرتّب من خلاله القراءات بطريقة أكثر بنائيّة.
■ هل تقرأ بلغة أخرى إلى جانب العربية؟
نعم، بالفرنسيّة والإنكليزيّة. لكنّ نسبة الذي أطّلع عليه بهاتيْن اللغتين يظلّ قليلاً مقارنة بما أقرؤه بالعربيّة.
■ كيف تنظر إلى الترجمة وهل لديك رغبة في أن تكون كاتباً مترجماً؟
الترجمة لُعبة خطرة وتمرين مفيدٌ في الآن ذاته. تكمنُ خطورتها في وهم التماهي الّذي تقدّمهُ بين لغة الأصل واللغة المنقول إليها بطريقة تجعل القارئ يعتقد أنّ نصّ الترجمة هو النصّ المترجم دون أن يعي الخصوصيّة الإنشائيّة الّتي يفقدها أثناء عمليّة التحويل اللغويّ التي يخضع إليها. وقد تأثّرت الساحة الشعريّة العربيّة المعاصرة، وخاصّة ما يُكتب في خانة قصيدة النثر، بالشعر المترجم ونسجت على منواله، معتقدة أنّ ما يُترجم هو الأنموذج الأمثل لاتباعه والنسج على منواله، متناسية أنّ بعض هذه التجارب في الأصل هي تجارب موزونة، وكلّ ما حصل أنّها فقدت خصوصيّتها الإيقاعيّة في انتقالها إلى العربيّة، وهو ما أنتج كتابة نمطيّة متشابهة قائمة في أغلبها على الجملة الاسميّة والميل إلى التسريد والقفلة القريبة من لحظة الانكشاف أو الانقلاب في القصّة القصيرة. أمّا فائدة الترجمة باعتبارها تمرينا يمكن أن يمارسه الشاعر أو الكاتب، فتتعلّق من ناحية بتمكينه من تمثّل خصوصيّة الكتابة في اللغات الأخرى، وبالتالي الوعي بأهميّة بناء خصوصيّة عربيّة، وبتطوير معجمه أثناء عمليّة الترجمة أي أثناء البحث عن المعادلات المعجمية المختلفة الّتي يمكنه من خلالها أن يقدّمَ نصّاً معادلاً للنصّ الأصليّ وإنّما بعملة أخرى. وأمّا فيما يتعلّق بـ "الكاتب المترجم" أو "الشاعر المترجم"، لا أعتقد أنّ الشاعر يُقارب الترجمة أو أشكال الكتابة الأخرى من خارج الشعر. إنّ أيّ تمرين يقوم به في الكتابة هو رافد من روافد تجربته وفاعل أساسيّ في بناء لغته الخاصّة وتطوير أسئلته الشعريّة والأسلوبيّة. وأنا مدينٌ للترجمة لأنّها تتيح لك دائماً فرصة للهدم والبناء المستمرّيْن لنصّ مكتمل في لغة الأصل ونصّ مفتوح في اللغة الّتي تكتب بها.
■ ماذا تكتب الآن وما هو إصدارك القادم؟
إلى جانب بعض الترجمات التي ستصدرُ تباعاً في الأشهر القليلة القادمة، بدأت الاشتغال منذ سنة على كتاب شعريّ جديد وقد يحتاج عاميْن آخريْن من العمل والبحث والكتابة والمحو. ثمّة أيضاً بعض الأعمال النقديّة الّتي شرعتُ بها ولم أكملها لسبب أو لآخر، وقد أعود إلى العمل على تطويرها.
بطاقة
شاعر تونسيّ من مواليد حزيران/ يونيو 1994، حاصل على الإجازة في اللغة والأدب والحضارة العربية من "دار المعلّمين العليا" في تونس، يُعدّ أطروحة ماجستيـر في الحضارة العربية بجامعة منّوبة. صدر له في الشعر: "أرض التوليب والجلّنار" (2014)، و"حجرٌ يؤوّلُ ظلّهُ" (2017)، وفي النقد: "السيريّ وقلق الهوية الأجناسية في التأمل الشعري" (2017)، وفي الترجمة: "آموك، سُعار الحُبّ" لـ ستيفان زفايغ: آموك، و"الفراديس المصطنعة، نصوص عن الحشيش والأفيون" لـ شارل بودلير (2018).