صهيل فأر مزعج

04 يناير 2019
+ الخط -
في صيفِ سنة 2006، اشتريتُ رفّاً متوسط الحجم، لأرتِّبَ فيه كتبي ومجلاتي التي كانت مُبعثرة في جلِّ أرجاءِ الغرفة، فإذا احتجتُ مرجعاً معيناً، أبحث عنه كثيراً، وكأنّني أبحثُ عن إبرةٍ في كومةِ القش. مرَّ أسبوع ويزيد عن شرائه، فبدأتُ ألاحظُ شيئاً غريباً يجري في غرفتي، حيث وجدتُ فضلات فأرٍ صغير. شككتُ في البداية في أمره. لم أشترِ سمّاً للقضاءِ عليه، فلو وضعتُ قليلاً من الخبز والجبن، ودسستُ بعض السم، سأجدهُ في الصباحِ ميتاً. ولكن أنا لا أقتل، الإنسانيةُ فعلٌ سامٍ، الكل يحبُّ الحياة، فلماذا أحرمهُ منها.

ظللتُ أراقبُ الغرفة، حتى بدا لي خارجاً من تحتِ السرير، ألقى عليَّ تحيةَ حبٍّ ومودة، يبدو أنه أحبَّ غرفتي كثيراً. ابتسمتُ في وجهه، فردَّ عليّ باقتضابٍ شديد، ردُّهُ هذا يشبهُ ردَّ شابٍ استنفرَ فتاةٍ ما، مملّة، توحي بالكآبة والاشمئزاز. قال: 

- صوه صوه. 

ثم عاد لمخبإه، صرتُ أقفل غرفتي بإحكام، أريدهُ أن ينعمَ بالراحة والهدوء. عند عودتي مساءً، أجدُ غائطه بالقربِ من سريري، أجمعهُ براحةٍ ثم أرميه.

كنت أقرأُ روايةً للأيقونة "عبد الرحمٰن منيف"، روايةٌ موحشة، تؤكّد مدى تخلُّف الفرد العربي؛ باعتماده على أساليب وحشية في تعذيب إنسانٍ عادي لم يرتكب أيّ جرم، سوى المطالبةِ بحقوقه. مشيتُ بخطًى ثابتة نحو مكتبي للعودة إلى الرواية وقراءة ما تيسر منها، قبل أنْ أخلد إلى النَّوم. فوجدتُ بعض صفحاتها متآكلة، قضمها برقّة، أخذ حروفاً بهية من عملٍ بديع. أشعلتُ ضوء الغرفة كاملاً، فخرجَ منحني الرأس، نظر إليّ بنظراتٍ ثاقبة، وقال: 

- صوه صوه، أنا من أكلتُ من تلك الأوراق، هي غذائي الوحيد في غرفتك الموصدة. 

أومأتُ برأسي متفهماً.

صرتُ أحبه حباً منقطع النظير، كل يومٍ أجد مكتبي مبعثراً، وبعض الأوراق من ذلك الكِتاب الذي أقرأُ فيه أجدها متآكلة. والفتهُ كثيراً في غرفتي، أصبح يؤنسي في وحشةِ الليل الحالكة.

عندما أستيقظُ ليلاً، أسمعُ خشخشة كيس، أو حفيفَ صوتهِ العذب. يصولُ ويجولُ في غرفتي، دون أخذِ الإذن، صار مزعجاً، رغم إزعاجه ذاك، توطدت علاقةٌ متينة بيننا. 

تركتُ باب غرفتي مفتوحاً ذات صباحٍ، لم أغلقه بإحكام كعادتي، دخلتْ أمي - وهي تحبُّ النَّظافة حباًّ جما – وجدت فضلاتهِ أرضاً، عرفت بأنَّ فأراً اقتحم الغرفة، وبالتالي وَجَبَ القضاء عليه، صار أمرُ قتلهِ مسألة وقتٍ ليسَ إلّا. 

وضعت قطعةً من الجبن المالح، وربع خبزةٍ، والقليلَ من السم. وضعت كل شيءٍ بإحكام تحت سريري المهترئ، الذي يُصدرُ صوتاً يخترقُ الآذان. 

جاء الفأرُ المسكين، وتناولَ الجبن والخبز بعجالةٍ كبيرة، فكانَ ذلك كافياً لإردائهِ أرضاً، ميتاً.

عدتُ إلى غرفتي، فوجدتُ مكتبي مرتّباً، ولم أجد فضلاته التي تعوّدت عليها. استغربتُ في البداية، ثم ظننتُ أنني عندما تركتُ الغرفة مفتوحة فرَّ هارباً من هذا القفص الضيّق، ربما اشتاقَ لحبيبته الفأرة. لا أدري. 

واصلتُ القراءة، نمتُ حتى الصباح. استيقظتُ كعادتي، غسلتُ وجهي، نظّفتُ أسناني، ارتديتُ ملابسي، أدرتُ وجهي متفرساً يمنة ويسرة نحو المرآة. عند خروجي لمحته مرمياً على الأرض، مقتولاً، قُتِلَ ببشاعة. استنكرتُ فِعْلَ أمّي بشدة.

حملتهُ بين يدي، ذهبتُ إلى البُستان، حَفرْتُ حفرةً صغيرة، وضعتهُ فيها بحزنٍ عميق. حينها بَدَتْ عينايَ جاهزةً للبُكاء. ذهبَ إلى ملاذِهِ الأخير دون استئذان. سأفتقدُ جملتهُ الجميلة "صوه صوه". تركني غارِقاً في الحسرة، وكلّما دخلتُ الغرفة تذكّرتُ شكله، ونصاعةَ أسنانه. فكلُّ شيءٍ فيه كان بديعاً.

D0771653-5987-472A-9832-BC01A63DAA54
سفيان البراق

مدون مغربي... طالب جامعي في السنة الثانية شعبة الفلسفة. السن 19 سنة وأنحدر من منطقة هوارة نواحي مدينة أكادير.