مغامرة جريئة تلك التي تأخذنا إليها الروائية والشاعرة المكسيكية الأميركية جنيفر كليمنت (1960)، في روايتها "صلاة لأجل المفقودات". لا تنحصر المغامرة على مستوى الحكاية التي اخترقت عوالم عصابات الجريمة في المكسيك وحسب، بل ثمة جرأة في التكنيك السردي الذي اعتمدته كليمنت وأهَّل روايتها هذه للحصول على جائزة ساري كاري الإنسانية، وزمالة الصندوق الوطني للفنون. كما اختارتها نيويورك تايمز كأفضل كتاب للعام ألفين وأربعة عشر.
تدور أحداث الرواية في ريف مقاطعة غيريرو المكسيكية حيث تعيش "ليديدي"، الفتاة المرحة الذكية ذات الستة عشر عاماً، برفقة والدتها، والمحرومة في الوقت عينه من التعليم، لأن المدرسة الصغيرة التي ترتادها تفتح أبوابها بصورة متقطّعة، وبوجود مدرّس متطوّع فقط، حيث يخاف الجميع المجيء إلى هذا المكان المعروف بكونه مسرحاً نشطاً لعصابات المخدرات والجريمة. وممّا يزيد الأمر تعقيداً أنه لم يبق في غيريرو رجل واحد بعد أن اختار الجميع الهجرة إلى أميركا وترْكِ عائلاتهم خلفهم نهباً للعصابات. هذا المجتمع النسائيّ الخالص يبدأ في التكيُّف مع ورطته التي لم يكن له يد فيها، حيث يتوجّب على الأم أن ترعى صغارها عبر ابتكار وسائل حماية غريبة تحت وطأة الخوف؛ فمع كل طفلة تولد تُعلن الأمهات أنّ صبياً انضمّ للعائلة، كي يبعدن أعين العصابات عن منازلهن. وبمجرد أن تتجاوز الفتاة الحادية عشرة وتبدأ علامات الأنوثة في الظهور والتشكّل، حتى تلجأ الأمهات إلى حيلة جديدة، وهي"التبشيع". في غيريرو محل تجميل، لكنّ وظيفته الأولى هي العمل على تبشيع الفتيات حتى يزهد فيهن رجال العصابات الذين يزورون المكان بين الحين والآخر عبر عربات الدفع الرباعي التي تثير الغبار والرعب في المكان.
عبر أسلوب سرد ناعم وشيّق تتحدث كليمنت إلى قارئها من خلال مستويين؛ أحدهما البطلة الظاهرية، وهي هنا الطفلة ليديدي التي تسرد الحكاية كشخصية وجهة النظر، فنعرف من خلالها الانطباعات والآراء والوصف الخارجي للمكان والشخصيات، لكن المستوى الآخر والأكثر عمقاً تقوم به الأم، وهي هنا البطلة الحقيقية للنص، وإن كانت محرومة من الحكي إلا عبر وسيط. هذه اللعبة الخطرة جاءت سلسة ومتناغمة ومقنعة، فثمة حاجة لوصف الأمور بكثير من التفصيل الطفولي المرح تقوم به الفتاة، وثمة حاجة أعلى لمنحه عصارة الحكمة التي تتمتع بها الأم، هذه الشخصية التي لم تأت طيبة بل حقنتها جنيفر كليمنت بخبث ولؤم محبّبين، فنحن نعرف أنها سارقة وكاذبة وحقودة ورغم ذلك لا نستطيع أن نكرهها. إنها المزيج المثالي للجلاد والضحية في آن معاً.
أبطال هذا العمل هنّ النساء فقط، كنّ الصورة الحقيقية والوحيدة طوال النص، وما عداهنّ هوامش وظلال. حتى رجال العصابات كان حضورهم عبر حالة الرعب وسطوتهم النفسية على الفتيات وأمهاتهنّ. لكن ذلك لم يضيّق أفق النص ويحجب امتداداته، بل على العكس جاء رحباً مفعماً بالحكي والتداعي، وهي لعبة خطرة أخرى بدا أنّ الروائية تُتقنها تماماً.
في هذه الرواية توجّه الكاتبة سهامها إلى أهداف عدة، إنّها تواجه بكل شجاعة رجال العصابات، وتذهب أبعد حين تنتقد من يسهّل لهم ذلك، من رجل الشارع العاديّ إلى رئيس البلاد. ثم هي تعرّي الرجال الذين اختاروا بكل سهولة ولامبالاة الهرب إلى أميركا. اختاروا الانزواء وعدم المواجهة، فكان لا بد أن يقوم الآخرون بهذا الدور، وهذا ما فعلته النساء. هنا تبدو الأم حاقدة على زوجها، نراها تشتمه مع كل عثرة، وتقطّع الخضروات وهي تتخيّل نفسها تغرس سكينها في صدر الزوج الغائب بعيداً. لكن جنيفر كليمنت لم تكن رحيمة بالمرأة أيضاً، فما إن نبدأ في التعاطف مع نساء غيريرو حتى تبرز إلينا طباعهم البغيضة، ولعلّ ذلك كان لدواعي الحماية من الأخطار المحدقة.
الرواية غاضبة من عموم المكسيك أيضاً، من الناس والأشجار وحجارة الطريق، من الطقس الحار والعناكب السامة والأفاعي الملونة.
أميركا، أو كما تصفها الكاتبة على لسان الأم بالمقبرة الكبيرة لأنها تُخبئ الرجال المكسيكيين إلى الأبد، نالها نصيب من السهام، فصحيح أنها تستقبل المهاجرين من المكسيك، لكنها في المقابل تبعث بالإيدز في الاتجاه الآخر، وصحيح أنها تعاني من أطنان المخدرات المتجهة نحوها، لكنها لا توفّر جهداً في إغراق المكسيك بأطنان من الأسلحة وأدوات الموت. هنا بدا جلياً أن ثمة تنازع يسكن الكاتبة المولودة في الولايات المتحدة الأميركية قبل أن تعود إلى وطنها الأم. ثمة اضطراب في حقيقة الانتماء بين البلدين. نجدها في البدء منحازة للمكسيك رغم كل الغضب الذي تحمله عليه، لكنها في النهاية وفي محاولة للنجاة تهرب بأبطال الرواية إلى أميركا، الجارة التي تكرهها لكنها رغم ذلك سبيل النجاة الوحيد.
* كاتب إريتري
تدور أحداث الرواية في ريف مقاطعة غيريرو المكسيكية حيث تعيش "ليديدي"، الفتاة المرحة الذكية ذات الستة عشر عاماً، برفقة والدتها، والمحرومة في الوقت عينه من التعليم، لأن المدرسة الصغيرة التي ترتادها تفتح أبوابها بصورة متقطّعة، وبوجود مدرّس متطوّع فقط، حيث يخاف الجميع المجيء إلى هذا المكان المعروف بكونه مسرحاً نشطاً لعصابات المخدرات والجريمة. وممّا يزيد الأمر تعقيداً أنه لم يبق في غيريرو رجل واحد بعد أن اختار الجميع الهجرة إلى أميركا وترْكِ عائلاتهم خلفهم نهباً للعصابات. هذا المجتمع النسائيّ الخالص يبدأ في التكيُّف مع ورطته التي لم يكن له يد فيها، حيث يتوجّب على الأم أن ترعى صغارها عبر ابتكار وسائل حماية غريبة تحت وطأة الخوف؛ فمع كل طفلة تولد تُعلن الأمهات أنّ صبياً انضمّ للعائلة، كي يبعدن أعين العصابات عن منازلهن. وبمجرد أن تتجاوز الفتاة الحادية عشرة وتبدأ علامات الأنوثة في الظهور والتشكّل، حتى تلجأ الأمهات إلى حيلة جديدة، وهي"التبشيع". في غيريرو محل تجميل، لكنّ وظيفته الأولى هي العمل على تبشيع الفتيات حتى يزهد فيهن رجال العصابات الذين يزورون المكان بين الحين والآخر عبر عربات الدفع الرباعي التي تثير الغبار والرعب في المكان.
عبر أسلوب سرد ناعم وشيّق تتحدث كليمنت إلى قارئها من خلال مستويين؛ أحدهما البطلة الظاهرية، وهي هنا الطفلة ليديدي التي تسرد الحكاية كشخصية وجهة النظر، فنعرف من خلالها الانطباعات والآراء والوصف الخارجي للمكان والشخصيات، لكن المستوى الآخر والأكثر عمقاً تقوم به الأم، وهي هنا البطلة الحقيقية للنص، وإن كانت محرومة من الحكي إلا عبر وسيط. هذه اللعبة الخطرة جاءت سلسة ومتناغمة ومقنعة، فثمة حاجة لوصف الأمور بكثير من التفصيل الطفولي المرح تقوم به الفتاة، وثمة حاجة أعلى لمنحه عصارة الحكمة التي تتمتع بها الأم، هذه الشخصية التي لم تأت طيبة بل حقنتها جنيفر كليمنت بخبث ولؤم محبّبين، فنحن نعرف أنها سارقة وكاذبة وحقودة ورغم ذلك لا نستطيع أن نكرهها. إنها المزيج المثالي للجلاد والضحية في آن معاً.
أبطال هذا العمل هنّ النساء فقط، كنّ الصورة الحقيقية والوحيدة طوال النص، وما عداهنّ هوامش وظلال. حتى رجال العصابات كان حضورهم عبر حالة الرعب وسطوتهم النفسية على الفتيات وأمهاتهنّ. لكن ذلك لم يضيّق أفق النص ويحجب امتداداته، بل على العكس جاء رحباً مفعماً بالحكي والتداعي، وهي لعبة خطرة أخرى بدا أنّ الروائية تُتقنها تماماً.
في هذه الرواية توجّه الكاتبة سهامها إلى أهداف عدة، إنّها تواجه بكل شجاعة رجال العصابات، وتذهب أبعد حين تنتقد من يسهّل لهم ذلك، من رجل الشارع العاديّ إلى رئيس البلاد. ثم هي تعرّي الرجال الذين اختاروا بكل سهولة ولامبالاة الهرب إلى أميركا. اختاروا الانزواء وعدم المواجهة، فكان لا بد أن يقوم الآخرون بهذا الدور، وهذا ما فعلته النساء. هنا تبدو الأم حاقدة على زوجها، نراها تشتمه مع كل عثرة، وتقطّع الخضروات وهي تتخيّل نفسها تغرس سكينها في صدر الزوج الغائب بعيداً. لكن جنيفر كليمنت لم تكن رحيمة بالمرأة أيضاً، فما إن نبدأ في التعاطف مع نساء غيريرو حتى تبرز إلينا طباعهم البغيضة، ولعلّ ذلك كان لدواعي الحماية من الأخطار المحدقة.
الرواية غاضبة من عموم المكسيك أيضاً، من الناس والأشجار وحجارة الطريق، من الطقس الحار والعناكب السامة والأفاعي الملونة.
أميركا، أو كما تصفها الكاتبة على لسان الأم بالمقبرة الكبيرة لأنها تُخبئ الرجال المكسيكيين إلى الأبد، نالها نصيب من السهام، فصحيح أنها تستقبل المهاجرين من المكسيك، لكنها في المقابل تبعث بالإيدز في الاتجاه الآخر، وصحيح أنها تعاني من أطنان المخدرات المتجهة نحوها، لكنها لا توفّر جهداً في إغراق المكسيك بأطنان من الأسلحة وأدوات الموت. هنا بدا جلياً أن ثمة تنازع يسكن الكاتبة المولودة في الولايات المتحدة الأميركية قبل أن تعود إلى وطنها الأم. ثمة اضطراب في حقيقة الانتماء بين البلدين. نجدها في البدء منحازة للمكسيك رغم كل الغضب الذي تحمله عليه، لكنها في النهاية وفي محاولة للنجاة تهرب بأبطال الرواية إلى أميركا، الجارة التي تكرهها لكنها رغم ذلك سبيل النجاة الوحيد.
* كاتب إريتري