على هذه الخلفية من الاحتقان المزمن والتوجّس العميق بين الحليفين اللدودين، تأتي صفقة "إس 400"، لتفاقم التأزم بينهما. وبعد محاولة الانقلاب ضد أردوغان في 2016، هبطت العلاقات إلى الأسوأ، في ضوء رفض واشنطن طلب أنقرة تسليم زعيم حركة "الخدمة" فتح الله غولن المقيم في الولايات المتحدة والمتهم بالضلوع في ترتيب محاولة الانقلاب. وبقي التوتر على حاله منذ ذلك الحين. ثم جاءت التطورات الكبيرة في المنطقة خصوصاً في سورية، لتزيد من التدهور الذي استعصى على الترميم.
الآن يبدو من المقدمات أن هذه الصفقة علامة فارقة على طريق الافتراق. واشنطن تستعد لفرض وجبة عقوبات على أنقرة. القانون الأميركي يقضي بذلك في مثل هذه الحالة ولو أن الرئيس دونالد ترامب يميل لتخفيفها، ربما لحسابات روسية، لكن الكونغرس بالمرصاد وأجواؤه تشير إلى عزمه على ممارسة المزيد من التشدد مع أنقرة.
يضاف إلى ذلك أن البنتاغون يعتزم التراجع عن تزويد تركيا بطائرة "أف 35" الحديثة بعد أن وافقت الإدارة على بيع أربع منها. وأخيراً توقف سلاح الجو الأميركي عن تدريب الطيارين الأتراك في قواعده الأميركية، على هذه المقاتلة.
ومن المتوقع أن ترد أنقرة على هذه الخطوات بإجراءات مشابهة تصب في زيادة تعقيد العلاقة المعقدة القائمة أصلاً على توازن دقيق بين الريبة والحاجة المتبادلة. معادلة أبقتها متأرجحة بين التحالف والتنافر، من دون خروجها عن السيطرة.
عام 1964، هدّدت واشنطن أنقرة بوقف تزويدها بالأسلحة لو تدخلت عسكرياً في قبرص. ردّت أنقرة بالانفتاح على موسكو "لموازنة" الضغط الأميركي. وبعد عشر سنوات ضمت الجزء التركي من الجزيرة. آنذاك قضت الحرب الباردة وحساباتها بتجاوز الأزمة. الآن تغيرت الظروف. التنكر المتبادل لما يراه الطرفان أولويات مشروعة، عزز التنافر وبالتالي التباعد بينهما. الخلافات حول مواقع حدودية سورية وتسليح الأكراد السوريين ومسألة تسليم فتح الله غولن لأنقرة، بدت غير قابلة للتسوية.
وأخيراً، نشأ خلاف جديد حول مناطق بحرية متنازع عليها قرب قبرص للتنقيب عن النفط والغاز، أخذت واشنطن منها موقفاً لصالح الجزيرة. سبق ذلك سحب ألمانيا لصواريخ "باتريوت" من تركيا بذريعة تزايد كلفة تشغيلها ومن دون مراعاة لروابط "الناتو" وموجباته في توفير الحماية لأحد أعضائه. ثم أعقبه رفض واشنطن نقل تكنولوجيا شبكة باتريوت إلى تركيا، في حين وافقت روسيا، حسب ما تقول أنقرة، على مشاركة هذه الأخيرة في تطوير تكنولوجيا "إس 400".
الاهتمام الآن مصوب على التباين بين فريق الأمن القومي والبيت الأبيض، في كيفية الرد على خطوة أنقرة الأولى من نوعها ووزنها. المعروف أن الرئيس ترامب متساهل مع هذا التحول، فيما يدعو وزير الخارجية مايك بومبيو إلى فرض عقوبات صارمة ضد تركيا. لكن مثل هذا التباين انتهى في حالات أخرى، إلى التراجع واضطرار الوزير ومعه مستشار الأمن القومي جون بولتون إلى الانضباط والتكيف مع قرار الرئيس، سواء بالنسبة لكوريا الشمالية أو إيران على الأقل حتى الآن. وبالقياس قد لا يستبعد أن يطرح ترامب خيار الإبقاء على صفقة "أف 35" مع تركيا، من باب الحرص على إبقاء خط الرجعة مفتوحاً للمستقبل، حسب بعض العسكريين السابقين.