صفحات "هزلمأساوية" من تاريخ حكم العسكر (1)

16 يونيو 2019
+ الخط -
ـ كتاب نادر يحكي وقائع هزيمة يونيو 1967 من وجهة نظر عبد الحكيم عامر. عبد الحكيم يقول: عبد الناصر ضربني من ورا زي أفلام الكاوبوي ــ شمس بدران يقول لحسين الشافعي: وانت من إمتي بتعرف حاجة؟ ـ المشير يهدئ غضب عبد الناصر من شمس بدران: ما انت عارف إن شمس مبرشم، ده ابنك"ـ ويقول بعد الهزيمة: أهوه عبد الناصر شاف، لا أمريكا خافت ولا صغرت ـ شمس بدران يقول للمشير عامر: "هو عبدالناصر حيعمل إله علي أنا كمان"

....

من هو المسؤول الفعلي عن هزيمة يونيو 1967؟ وما هي حقيقة الصراع المرير الذي سبق وقوع الهزيمة بين جمال عبدالناصر وصديقه وشريكه في الحكم عبدالحكيم عامر؟ وكيف انتهى ذلك الصراع؟ هل كان عبدالناصر ناحراً وعبد الحكيم منحوراً بالفعل؟ أم كان عامر منتحراً استيقظ ضميره بعد فوات الأوان كما تقول الرواية الرسمية؟ وقبل أن نتمكن من حسم حقيقة النحر أو الانتحار، هل كان ممكناً أن نتفادى الهزيمة التي حدثت في يونيو 1967 لو كانت طريقة الأداء السياسي مختلفة؟ أم أن الهزيمة كانت حتمية لا فكاك منها بسبب التآمر الدولي على مصر؟ هل كان عبد الناصر على علم بخطايا عامر العسكرية والسياسية وعاجزاً عن اتخاذ موقف منها؟ أم أنها كانت تتم بدون علمه أصلا؟ أم أن الأداء السياسي لعبد الناصر هو الذي قاد إلى أخطاء عامر السياسية؟ للأسف الشديد ليست هذه أسئلة قديمة تجاوزها الزمن كما يحاول البعض أن يدعي، ولن تكون كذلك طالما ظللنا مصممين على إعادة أخطاء ماضينا بحذافيرها، لنتخيل ثانية أن خروج مصر من مآسيها وأزماتها، لن يكون إلا حين يحكمها رجل عسكري حازم شاكم، يفعل بها ما يشاء كيفما شاء.   

خلال العقود الماضية، انتشرت واشتهرت شهادات مكتوبة ومرئية ومسموعة، تحاول الإجابة على هذه الأسئلة الحرجة، ولم يكن من بينها هذه الشهادة النادرة التي سنقرأها سوياً، والتي ظلت مجهولة لسنوات طويلة، برغم أهمية ما ترويه/تدعيه عن وقائع (الصداقة القاتلة) بين جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر. تلك الصداقة التي لا زالت تشكل أبرز نموذج لمأساة الإعتماد على أهل الثقة دون أهل الخبرة، والتي كانت سببا مباشرا في الكثير من بلاوي المصريين أمس واليوم وغداً، وهي شهادة تجيئ من جانب شخصية منحازة تماماً لعبد الحكيم عامر، في مواجهة عشرات الشهادات، التي اتفقت على أن يلعب عامر منفردا دور الشرير المطلق، ليتحمل وحده مسؤولية هزيمة يونيو والانفصال عن سورية وكثير من المظالم السياسية والإجتماعية التي جرت في عهد عبد الناصر، وهو ما ترد عليه هذه الشهادة، التي لا يمكن القول بأنها شهادة حاسمة، لأنه ليس هناك شهادة حاسمة على إطلاقها، حين يتعلق الأمر بملفات شائكة ومعقدة، لكن تظل أهمية هذه الشهادة أنها تلقي الضوء على الطريقة العشوائية التي كانت تدار بها مصر في فترة حالكة السواد، بشكل يتجاوز فكرة إدانة شخص عبد الناصر أو عبد الحكيم، إلى إدانة الطريقة التي كانت تدار بها مصر، ولا تزال. 

كاتب العشاء الأخير 

اختار صاحب الشهادة لها عنواناً يوحي بانحيازه الكامل للمشير عبد الحكيم عامر، هو (العشاء الأخير للمشير)، الكاتب هو النائب البرلماني عبد الصمد محمد عبد الصمد، الذي كان بلديات عبد الحكيم عامر وواحدا من أصدقاء عمره وأخلص رجاله، وقد جعلته صداقته الوثيقة بعامر، يُختار ليكون عضواً بمجلس الأمة عن دائرة بلد المشير، مركز مطاي بمحافظة المنيا، ورئيساً للاتحاد القومي في مركز مطاي، ثم سكرتيرا للاتحاد القومي الذي أصبح بعد ذلك اشتراكياً بمحافظة المنيا، ثم رئيسا للمجموعة البرلمانية لمجلس الأمة عن الصعيد، لكنه كما نال كل هذه المناصب بفضل صداقته بالمشير، دفع ثمن تلك الصداقة غاليا بعد ذلك، حين وجد نفسه بعد موت المشير عامر، مسجوناً في الزنزانة رقم 15 بمعتقل القلعة، وخاضعا للحراسة تحت رقم 1714 ه، بل إنه بعد أن أفرج عنه بعد وقت طويل من موت/قتل المشير، ظل خاضعاً للحراسة ورفضت تظلماته منها لسنين طويلة. 


لم يشرع عبد الصمد في نشر شهادته عن صداقته بعبد الحكيم عامر، إلا بعد سنوات من رفع الحراسة عنه، وتحسن ظروفه المادية قليلا، ليقرر بعدها نشر مذكراته التي بدأ تدوينها عام 1979، والتي لم تنشر إلا في منتصف الثمانينات، بعد أن تم إلغاء الرقابة المباشرة على الكتب، لتصبح رقابة لاحقة، في حالة نشر كتب تتضمن أسرارا عسكرية لا ترغب السلطة في وصولها للناس، كما حدث مع مذكرات الفريق سعد الدين الشاذلي عن حرب أكتوبر، ولذلك ظل كتاب عبد الصمد ممنوعاً من الأسواق لسنوات طويلة، وكنت أول من نشر تفاصيله وعرض له في الصحافة "الرسمية" بعد سنين طويلة من تجاهله وحظر نشره، بعد أن حصلت على نسخة من الكاتب الكبير الأستاذ صلاح عيسى، حين كنت أعمل معه مديراً لتحرير صحيفة (القاهرة) في بدايات صدورها عن وزارة الثقافة. 

اختار عبد الصمد محمد عبد الصمد ألا يكتب شهادة جافة على ما عاصره من وقائع، بل قرر أن يوظف في سردها ميوله الأدبية المكبوتة والتي تراها واضحة وأنت تقرأ شهادته، بل واختار أحياناً أن يكتب تعليقات ساخرة على بعض ما عاشه، متخيلا أن ذلك سيكون أكثر إمتاعا للقارئ، لكنه لم يدرك أن حجم ما يرويه من كوارث، لا يتناسب مع "الهزار الثقيل" الذي كان يورده أحياناً، وأظنه قرر أن يكون على سجيته وهو يكتب، دون أن يكتب بشكل منضبط، لأنه كان واثقا أن الكتاب سيحقق نجاحاً كاسحاً، كالذي حققته كتب كثيرة سبقته إلى رواية شهادات تدين عهد عبد الناصر، جلبت أرباحاً طائلة لناشريها، ولذلك قرر عبد الصمد أن ينشر كتابه على نفقته، ويبحث عن ناشر يساعده في التوزيع، لكن سعيه خاب لأنه بعد أن رفعت عنه الحراسة، كان اسمه قد أصبح شبه مجهول للخاصة قبل العامة، ولذلك خرج كتابه من المطبعة إلى سور الأزبكية محاصراً بالتجاهل، لتخيب طموحات عبد الصمد في نشر سلسلة كتب ذكر عناوينها في نهاية كتابه، جاء فيها ما يلي: (عدالة النساء.. حكايات قصيرة عن ديكتاتورية الزوجات والقصد منها سياسي ـ هالة أو سياسي يحب، قصة طويلة عن الحب والإلهام ـ الكورة لعبة سياسية.. قصة 5 سنوات في نادي الزمالك والقصد السياسي من الاهتمام بالكرة ـ مصري في الجنة: تصور خيالي عن حياة مشاهير التاريخ في الآخرة (وهي فكرة سبق إليها عبد الصمد ما فعله د. مصطفى محمود بعدها بسنوات) ـ إنه الله علما وإلهاماً (وهو الكتاب الديني الصرف الوحيد الذي كان عبد الصمد ينوي تأليفه) ـ أسرار حكم عبد الناصر ــ معتقلات وحراسات عبد الناصر). لكن عبد الصمد لم يتمكن من تأليف أي من هذه الكتب، ليستأنف حياته بعد فشل مشروعه في التأليف والنشر، بين قريته بالمنيا وشقة صغيرة كان يمتلكها "بعمارة صلاح سالم شارع الربيعي الجيزاوي بالجيزة المدخل الغربي شقة 23 علي إيدك اليمين" ـ بنص الوصف الذي يورده في كتابه ـ لاتؤنسه في وحدته إلا ذكريات الماضي وخادمة عجوز، حتى رحل عن الدنيا مصحوباً بمرارته وإحباطاته.  


السر في الآخر!

في الصفحات الأولى من كتابه، يفاجئ عبد الصمد قراءه، بأنه يعرف السر الرهيب للهزيمة المريرة في يونيو 1967، لكنه يضيف أنه وهو يكتب فصول الكتاب، لم يكن يعرف إذا كان سيقوم بتجميع حروف الكتاب مرة واحدة، وهو ما كان سيكلفه الكثير لأن ذلك الأسلوب في تجهيز الكتاب لم يكن يتوافر وقتها إلا في مطابع القطاع العام، أم أنه سيطبعه في مطبعة تقليدية عادية صغيرة، حيث يتم جمع حروف الكتاب باليد، ثم تتم طباعة الكتاب في ملازم منفصلة، فتبقى الملزمة الأولى قرابة الشهر معروفة ومقروءة من عمال الطباعة وصاحب المطبعة ومن المترددين عليها، فتذاع أهم أسرار الكتاب قبل وصولها للقارئ، وتجد من يسعى لحجبها عن الناس، ولهذا يقول عبد الصمد أنه اختار أن يؤجل إذاعة سر الهزيمة "حتى الملزمات الأخيرة التي تطبع قبل التوزيع مباشرة". 

بعد هذ الدخلة التشويقية "العارمة"، يبدأ عبد الصمد في رواية شهادته على مقدمات حرب 67،  بادئاً بالتحديد منذ تاريخ 17 إبريل 1967، حين سافر عبد الصمد إلى موسكو ضمن أعضاء وفد برلماني، في ظل حروب كلامية كانت تشنها الإذاعات المصرية على إسرائيل، دون أن يتصور أحد أنها ستتحول بعد شهرين فقط إلى حرب حقيقية، وبعد عودته من روسيا التقى بصديقه عبد الحكيم عامر، فروى له دهشته من التخلف الاجتماعي والاقتصادي الذي كان يعيشه الإتحاد السوفيتي، لدرجة أنه اندهش من إنبهار الروس بولاعته الرونسون الأمريكية حين أشعلها لأول مرة، لأنها تعتبر في بلادهم من الممنوعات، وكيف لاحظ أن معظم الصناعات المصرية متقدمة عن الصناعات الروسية المماثلة بخمسين عاماً على الأقل، وأنه يعتقد أن الإتحاد السوفيتي لا يستحق موقعه العالمي، فلم يعترض المشير على كلامه، بل قال له ببساطة: "قول الكلام ده للريس يا سيدي"، ليوحي رده المفاجئ بعدم رضاه عن علاقة عبد الناصر بالاتحاد السوفيتي. 

يروي عبد الصمد بعدها أن شمس بدران وزير الحربية، والذي كان من أصدقائه وأبرز أفراد شلة المشير عامر، اتصل به قبل إندلاع حرب يونيو بثلاثة أو أربعة أيام، وأخبره أنه سيأتي إليه في نادي الزمالك، الذي كان عبد الصمد أحد قياداته، وكانت إدارة النادي ملتقى لبعض سهرات المشير مع شلته، وحضر شمس بدران وتناول العشاء مع عبد الصمد، وسهر حتى الثانية صباحاً كما اعتاد على ذلك، ليقول ليلتها لرفاق السهرة إن بعض دوريات مصر العسكرية تجتاز الحدود، وتتحرش بإسرائيل لعلها تستفزها، فترتكب حماقة وتبدأ بإطلاق النار، ثم يتذكر عبد الصمد أنه ذهب مع عدد من زملائه أعضاء مجلس الأمة إلى القصر الجمهوري في كوبري القبة، ليقابلوا (صلاح الدين الأيوبي رقم 2)، وهو الاسم الذي أطلقوه يومها على عبد الناصر عن قناعة، لكي يبلغوه أن مجلس الأمة أعطاه تفويضا لكي يفعل ما يشاء ـ كأنه قبل التفويض كان يفعل ما يشاؤون ـ ويومها فاجأ أعضاء المجلس عن محافظة البحيرة باقي زملاءهم النواب، حين ذهبوا إلى ذلك اللقاء مرتدين الملابس العسكرية، ويعترف عبد الصمد بأنه لم يمتلك الشجاعة يومها، وهو يصافح عبد الناصر بأن يخبره بتخوفاته من دخول الحرب، بل داعب عبد الناصر متحدثاً عن سؤال سألته لعبد الناصر صحفية إنجليزية حول سنه وشبابه، وبعد أن صافح ناصر النواب، خطب فيهم قائلاً إنه علم بتفويضهم قبل مجيئهم إليه، وطمأنهم أن الروس أعطوا الوفد البرلماني الذي ذهب لزيارتهم تأكيدا بأنهم سيقفون مع مصر بأي شكل، مع أن عبد الصمد كان عضوا في الوفد، ولم يعرف شيئا عما نسبه عبد الناصر إلى الروس، فلم يعرف لحظتها هل قال ناصر ذلك من دماغه، أم أن أحدا من أعضاء الوفد نقل إليه كلاما غير حقيقي على لسان الروس؟ 

ينتقل عبد الصمد بعدها إلى ما بعد وقوع هزيمة يونيو، وبالتحديد إلى يوم 23 يوليو 1967، حين أعلن عبد الناصر في خطاب له، أنه كان يتوقع ضربة إسرائيل، وأنه حدد لها يوم 5 يونيو الذي "ضُربنا فيه فعلاً"، ليعلق عبد الصمد على ذلك أنه سأل المشير عامر الذي كان يعيش حالة قطيعة مع ناصر وقتها، عن رأيه فيما أعلنه عبد الناصر، فأنكر المشير صحة ما قاله ناصر، وسأل غاضباً: "لو كان يعلم لماذا تركني أحلق بطائرتي فوق سماء سيناء صباح 5 يونيو، ولماذا ترك وزير الدفاع العراقي يحلق مع حسين الشافعي في طائرة أخرى تحلق أيضا فوق سيناء، ولماذا وهو الرجل العسكري والقائد الأعلى للقوات المسلحة لم يذهب إلي غرفة العمليات في القيادة، وهل يعقل وهو الرئيس القوي أن يبلغني وشمس والقادة بما علمه فيستهينوا بكلامه، ولو كانوا قد فعلوا فلماذا لم يحاكمنا ويعدمنا ويقود هو البلاد بنفسه؟"، فيعلق أحد حضور الجلسة ساخراً أن عبد الناصر ربما رأى أن إسرائيل ستضرب مصر يوم 5 يونيو في الحلم، لكنه لم يعلن ذلك إلا بعد أن تحقق الحلم. 


وقعت الواقعة!

خلال روايته لبعض وقائع الهزيمة، يروي عبد الصمد أن المشير عامر وقادة الجيش غضبوا بشدة من محمد حسنين هيكل، لسان عبد الناصر وصوته الإعلامي الأهم، حين نشر قبل الحرب أن مصر لن تبدأ بضرب الضربة الأولى في الحرب، بل ستكون لها الضربة الثانية فقط، ولم يقتنع عامر وقادته بتبرير ناصر لما نشره هيكل بأنه من باب الخدعة المقصودة. ينقل عبد الصمد عن اللواء عثمان نصار ـ الذي كان سبباً في تعارف ناصر بعامر قبل الثورة ـ أن الفريق صدقي محمود قائد الطيران، قال لناصر في اجتماع عسكري رسمي، أنه لا يستطيع تحمل الضربة الجوية الأولى التي ستصيبه بالشلل وستكرر ماحدث في حرب 56، وطالب صدقي محمود بإعتمادات مالية لإنشاء مخابئ لحماية الطائرات، وشراء أجهزة رادار خاصة بالطيران المنخفض، فرد عليه ناصر بأنه يجب أن يخضع للقرار السياسي الذي يتعهد بعدم المبادرة بالضربة الأولى، طالباً من صدقي أن يقوم سلاح الطيران بالتحليق في الجو، بشكل منتظم لتلافي الهجوم المفاجئ، لكن صدقي رد عليه باستحالة ذلك لعدم استهلاك موتورات الطيارات. 

هنا يفسر عبد الصمد كتابة محمد حسنين هيكل، لمقال يشيد فيه بالفريق صدقي محمود، في عز اشتداد الحملة الشعبية اللاعنة له والمطالبة بإعدامه، بأن هذا المقال جاء بإيحاء من عبد الناصر الذي اكتفى باعتقال صدقي، وخشي أن تؤدي الاستجابة لو لمطالب المتظاهرين، إلى إثارة غضب من حضروا الحوار الذي دار بينهما قبل الحرب، فيكشف أحدهم حقيقة ما طلبه صدقي ورفضه عبد الناصر، وهو ما يتفق مع التساؤلات الكثيرة التي أثيرت بعد ذلك في الشارع المصري حول سر عدم تعرض صدقي محمود للعقوبة التي يستحقها، إذا كان قد قصّر بالفعل في أداء واجبه العسكري، ويرى عبد الصمد أن يقين صدقي من براءته وسلامة موقفه، هو الذي جعله رابط الجأش طيلة فترة اعتقاله، وصابراً علي سوء معاملة حراسه في السجن، ومن بينهم مخبر إسمه كامل كان متخصصا في مضايقته، وأن صدقي محمود لم يكترث بما تناقله الناس ـ بتشجيع من السلطة التي لم تكن تتسامح مع مثل هذه الأقاويل صدفة ـ عن أن الفنانة شريفة ماهر كانت ليلة الهزيمة تغير ملابسها في غرفة عمليات سلاح الطيران، وتنتقد طريقة صف الطائرات. 

يروي عبد الصمد أنه حين وقعت الواقعة، وبادرت إسرائيل إلى الضربة الأولى، لم يدرك كل أعضاء مجلس الأمة حقيقة ما وقع، وظل الجميع أسرى الفرحة بنصر كاذب، حتى أن ابن عم المشير عامر قال لعبد الصمد ظهيرة يوم 5 يونيو، إن الجيش أسقط ما بين ثلث وربع طائرات إسرائيل، لكن عبد الناصر وعامر وشمس، كانوا يعلمون الحقيقة المرة، وعندما تأكدوا من ضياع كل أمل في الخروج من المأزق، اجتمع الثلاثة لتدارس الموقف، ورغم وجود روايات مختلفة لذلك الإجتماع، من بينها رواية محمد حسنين هيكل في كتابه (الانفجار)، إلا أن عبد الصمد يقدم في كتابه تفاصيل مختلفة لما جرى، يرويها نقلا عن المشير عامر الذي حكى له ما دار يومها. 

الملفت أن عبد الصمد يروي أن عامر قال له إن سبب الهزيمة الرئيسي هو تواطؤ أمريكا مع إسرائيل، لكنه أرجع سبب ذلك التواطؤ إلى "رغبة أمريكا الملحة في الإنتقام من شتائم عبد الناصر، والتي لم تعرف الدبلوماسية العالمية لها مثيلا، لدرجة أنه كان يشتم الأمهات ذوات المكانة المقدسة في النفوس"، بنص تعبير عامر لعبد الصمد، قبل أن يضيف أنه لم يفهم لماذا كان عبد الناصر يطلق هذه الشتائم متسائلاً: "هل كان يظن جمال أن أمريكا ستخاف من شتائمه وتتخلى عن إسرائيل؟ أو أنه يستطيع بهذه الشتائم أن يجعلها دولة صغيرة لاتفيد إسرائيل؟ أهو شاف، لا أمريكا خافت ولاصغرت، إحنا اللي صغرنا"، وبالطبع ينقل عبد الصمد هذا الكلام على لسان المشير، متصورا أنه ينصف صاحبه ويبرئ ساحته، دون أن يدري أنه يزيد موقفه سوءاً ووبالاً أمام أي قارئ عاقل سيتساءل لماذا لم يقم عامر بكل ما يملكه من نفوذ بإعلان موقفه لعبد الناصر، إذا كان صادقاً بالفعل فيما يقوله؟

ينقل عبد الصمد عن المشير عامر، أنه في ختام الاجتماع الثلاثي مع عبد الناصر وشمس بدران، أخذ ورقة وكتب إستقالته في ثلاثة أسطر، وقدمها لناصر وقال له: "عن نفسي لو رجعت في استقالتي مايبقاش عندي أي دم وشمس طبعاً ماشي من غير كلام"، وكتب شمس أيضاً استقالته، وحين قام عامر لينصرف من الاجتماع، طلب منه ناصر الإنتظار لاختيار قرار الرئيس الجديد، فقال عامر: "أنا ماليش صفة رسمية دلوقتي"، ليرد عبد الناصر: "ما أنا كمان بعد ساعات هأبقى زيك وأحصلك"، وحين جلس عامر، فوجئ بأن ناصر يرشح شمس للرئاسة، فعقدت الدهشة لسانه لحظات ثم قال: "شمس مين.. شمس ده"، مشيراً إلى شمس ومضيفاً: " ما احنا قلنا ده أول الماشيين؟، ده مين يعرف عنه غير إنه وزير الحربية المهزوم"، ثم نصح عامر بإختيار عضو من مجلس قيادة الثورة، وعندما طرح عبد الناصر اسم زكريا محيي الدين لم يعترض عامر وقام لينصرف من المكان. 

يروي عبد الصمد أن المشير عامر قال له في يوم 12 يونيو 1967 كلاما يؤكد أنه قام بتدوينه وقتها، جاء فيه بالنص: ".. أول ما اقترح جمال ترشيح شمس للرياسة، كان واضح لأغبى إنسان إنه عايز يضمن ألف في المية، إن الناس حيثوروا ويتظاهروا حتى الطفل في بطن أمه حيصرخ ويحتج. ودي من الغلطات القليلة لجمال لما يتكلم معايا، ويفتكرني واحد من بتوع الاتحاد الاشتراكي، وبالطبع فوِّتها له علشان ما يشعرش إني باشك في جدية استقالته"، ويضيف عبد الصمد بعدها قائلاً إن أغلب أصحاب المناصب العليا في الدولة لم يكونوا يعرفون أصلا أن ناصر عرض منصب الرئيس على شمس بدران، لدرجة أن حسين الشافعي الذي اختير رئيسا للمحكمة، التي مثل أمامها شمس بدران، استغرب عندما حكى له شمس ذلك في معرض الدفاع عن نفسه، فقال بدهشة: "أنا ما عرفتش حاجة زي دي"، ليرد عليه شمس بوقاحة صادمة وحقيقية: "وانت من إمتى بتعرف حاجة". 

عن الرقص والهذيان

في موضع آخر من شهادته، يحرص عبد الصمد بضراوة على تكذيب الاتهام الذي وجهه الكثيرون لأعضاء مجلس الأمة، بأن كثيرين منهم رقصوا عند سماعهم بعدول عبد الناصر عن تنحيه، قائلاً أن الأعضاء لم يكونوا في حاجة إلى الرقص أصلاً للتعبير عن فرحتهم ومفاجأتهم، لأن عودة عبد الناصر كانت معروفة للكل، ومعترفا أن هناك عضواً واحداً فقط، هو "ر.أ" نائب من بني سويف، ومع أنه لم يذكر اسمه الكامل إلا أنه أكد أنه "لم يرقص بل قام بحركات غير متزنة تعبيرا عن سعادته، لعله يحظى برضا عبد الناصر، خاصة أنه كان قد سبق له قبلها بفترة، أن أثار لغطا خلال أدائه لفريضة الحج، حيث افتعل معركة كلامية مع أحد التجار السعوديين، فهتف بحياة عبد الناصر"، ليصل إلى مسامع عبد الناصر أنه تم الهتاف بحياته في قلب السعودية التي كانت تعاديه، فيشعر بالرضا عن رجله المخلص.

من الوقائع التي يحرص عبد الصمد علي تكذيبها أيضاً، ما نشره البعض عن خروج المشير من اجتماعه بعبد الناصر مضطرباً يهذي، مؤكداً أن المشير كان رابط الجأش لا يبدو عليه أثر لأي اضطراب أو هذيان، بل يبدو عليه أثر الحزن العميق فقط، قائلاً إنه ذهب  إلى بيت المشير في الجيزة يوم 11 يونيو، فوجده خاليا كأنه من أطلال زمن غابر، وعلم أن المشير عاد إلى بلده في المنيا، بصحبة شقيقه حسن وشمس بدران، وعلى الفور سافر عبد الصمد إلى المنيا، ليلتقي بالمشير في منزل أخيه الأصغر مصطفى في اليوم التالي. 

حكى المشير لعبد الصمد أنه ذهب ليزور صديقه جمال صباح يوم 11 يونيو، ففوجئ عند عودته إلى البيت، بتجمع لبعض الضباط يطالبونه بالعدول عن الإستقالة هو أيضاً، فقال لجمال بعدها أنه قام بتفريقهم، وأكد له أنه سيسافر لبلده "لأن القدر حدد نهايتي والحمد لله راضي بحكمه وربنا يوفقك وتمحو هذا العار"، وتأثراً بالجو العاطفي في ذلك اللقاء، قال له جمال: "برضه ياحكيم تسيبني في الظروف دي وتمشي، خلاص مش عايز تشتغل معهلش، لكن ما تسيبش أخوك وحده وتروح تقعد في اسطال، هو احنا بيننا مناصب، وهي دي مهمة يقدر عليها حد لوحده، خليك يا حكيم احنا مانستغناش عن بعض حاحتاج لك". لكن المشير رفض العرض وأصر على العودة إلى المنيا، وتعانق الصديقان بحرارة قبل انصراف عامر. 

قبل أن يرحل عامر، شكا له ناصر من أن شمس طلبه في التليفون، بعد إعلان عدوله عن التنحي وقال له: "مستعجل على إيه؟، مش كنت تستنى شوية لما تشوف زكريا ح يعمل إيه؟"، وسأل جمال صديقه عبد الحكيم: "عاجبك كلام شمس؟"، فرد عليه حكيم بنص ما يرويه لعبد الصمد: "انت عارف شمس مبرشم ومايعرفش يعبر أحسن من كده؟، وبعدين بتشكي لي شمس ليه، مش ده ابنك الروحي المناكف اللي إديتهولي هدية؟"، وهنا عاد جمال ليسأل معبراً عن توتره: "أنا باسألك عن معنى كلامه"، فرد عبد الحكيم بنفاد صبر: "المعنى ده هو اللي اتفقنا عليه وانت اللي رجعت فيه"، فرد جمال: أنا رجعت غصب عني بضغط الشعب"، وحين بدا أن نبرة عامر في الحديث لم تعجب عبد الناصر، سأل صديقه: "انت بتتكلم جد ولا بتتريق يا حكيم"، فرد عامر بنبرة منفعلة "وإيه الفرق؟ المهم إنك رجعت وربنا يوفقك". 

ثم يواصل المشير روايته لعبد الصمد، قائلاً إنه حرص على طمأنة عبد الناصر بأنه لن يعدل عن استقالته، مثلما عدل هو عن تنحيه، فاحتضنه عبد الناصر وقبله، ليقول المشير: "تأثرت تأثر كبير وبادلته عواطفه ولو إني عارفه بأحرّ منها وانصرفت"، وبعد أن يضع عبد الصمد خطوطا كثيرة تحت عبارة "ولو إني عارفه" الاعتراضية، يروي أن شمس بدران يومها قاطع حديث عامر، وأعاد رواية ما قاله لعبد الناصر تليفونياً، ثم عقب على ذلك قائلاً: "آدي اللي قلته.. أنا مش عارف هو زعلان من إيه؟ هو حيعمل إله عليّ أنا كمان؟"، قبل أن يعود المشير عامر ليواصل روايته لعبد الصمد قائلا: ".. طلعت من عنده وأنا حاسس إن احنا أخيرا ودعنا الشكوك والخلافات والأجواء الفاسدة اللي سببها الحكم، وإن صداقتي مع جمال اتولدت من جديد بريئة نضيفة.. لكن أنا رميت المسدس في الأرض ومشيت، وأنا ماشي راح واخده وضاربني بيه تماما زي أفلام الكاوبوي .. لما تلاقي فارس لايمكن يضرب من الخلف وآخر لا يضرب أبدا وجها لوجه.. طيب ليه؟ فيه حاجة تاني كان يمكن أعملها علشان يطمّن وماعملتهاش؟، وأنا لسه في السكة للمنيا، كان شكّل لجنة برئاسة زكريا محيي الدين وعضوية محمد فوزي وسعد متولي لتطهير الجيش من أصدقاء وأنصار عبد الحكيم، يبقي لازم يسرّحوا الجيش كله.. بقى زكريا يرأس لجنة تصفية عبد الحكيم عامر؟، ومين ياتري ح يرأس لجنة تصفية زكريا؟، وحيقول علي إيه؟، رجعي ولا شيوعي ولا من أعداء الثورة"، وهنا يقول عبد الصمد أن صديقه المشير، كان يتحدث بصوت يمتزج فيه التهكم بالألم، لكن المؤكد أنك ستقرأ كل ذلك الآن بصوت ليس فيه سوى الألم من هذه الدراما الإغريقية البائسة، التي دفعت مصر ثمنها، بل ومازالت تدفعه حتى الآن.

...

في الحلقة القادمة غداً: 

عندما قال المشير للرئيس: والله هزُلَت يا جمال ـ المشير يوافق على دخول رجاله إلى إدارة نادى الزمالك ليغيظ عبد الناصر ـ عامر يقول لرفاقه في لحظة غضب: أنا كنت زى مراة عبد الناصر وأمرى لله، ولو ناصر كلمني عن الدستور هأقول له: إنت ناسي إن احنا دافنينه سوا ـ مهزلة خناقة السمك والبذنجان والسردين بين ناصر وعامر

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.