صراع مصالح روسي-تركي في ليبيا: هل تستنسخ التجربة السورية؟

23 ديسمبر 2019
يلتقي بوتين أردوغان في تركيا الشهر المقبل (ميخائيل ميتزيل/Getty)
+ الخط -
ساهمت اتفاقيتا ترسيم الحدود البحرية والتعاون العسكري والأمني، الموقعتان بين تركيا وحكومة الوفاق الليبية بقيادة فائز السراج في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، إلى جانب تلويح تركيا باحتمال إرسال قوات عسكرية دعماً لحكومة الوفاق المعترف بها دولياً بوجه اللواء الليبي المتقاعد خليفة حفتر الذي يحاول منذ إبريل/ نيسان الماضي اقتحام العاصمة طرابلس، بدعم من دول عدة بينها مصر والإمارات والسعودية وروسي، في خلط الأوراق السياسية والعسكرية في هذا البلد. ولاقت التحركات التركية مواقف عدة منددة، خصوصاً من المحور الداعم لحفتر الذي يرى نفسه خاسراً من انخراط أنقرة على نحو واسع في دعم الوفاق. لكن الأبرز كان التباين التركي الروسي إزاء كيفية التعاطي مع الملف الليبي، إذ عكست تصريحات المسؤولين في موسكو وأنقرة حجم الخلافات، لتبقى آلية إدارتها مفتوحة على أكثر من احتمال. وينتظر أن تتضح صورته أكثر مع زيارة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين المرتقبة لتركيا، ومحادثاته مع نظيره رجب طيب أردوغان، خلال شهر يناير/ كانون الثاني المقبل. مع العلم أن الكرملين كان واضحاً بالتأكيد أنه "خلال الاتصالات المقبلة، سواء الهاتفية أو الشخصية، سيُناقَش موضوع ليبيا"، بما في ذلك بحث قرار تركيا إرسال قوات خاصة ومستشارين ومعدات عسكرية إلى ليبيا. 

ويأتي ذلك فيما يستدعي البعض، ولا سيما في موسكو، الحالة السورية، وسط حديث عن إمكانية استنساخ للحلول التي اعتمدت في ليبيا، إذ تمكّنت موسكو وأنقرة في سورية، من مراعاة المصالح المتبادلة، ومنع تكرار أي صدام مباشر بعد واقعة إسقاط قاذفة "سوخوي-24" الروسية في نهاية عام 2015.

لكن هذه الأجواء التفاؤلية لدى البعض في موسكو لا تبدو هي نفسها في أنقرة. وتشرح مصادر تركية مطلعة في وزارة الخارجية، في حديث مع "العربي الجديد"، الوضع قائلة إنّ "الانخراط التركي الأخير في ليبيا جاء بناءً على التطورات التي حصلت في معركة طرابلس، وتخلّي المجتمع الدولي عن حكومة السراج، مقابل دعم غير محدود من قبل السعودية والإمارات ومصر لقوات حفتر، فضلاً عن دعم له من قبل دول في الاتحاد الأوروبي، وفي ظلّ تردد أميركي. ولذلك، بات الملف الليبي مهماً لتركيا، والتدخّل فيه لازماً، مع تطورات الأوضاع شرق المتوسط من جهة، منعاً لتكرار ما حصل في مصر من جهة أخرى، حيث كانت حماية الشرعية فيها أمراً صعباً".

وتشير المصادر إلى أنّ "روسيا كانت من أولى الدول التي عارضت الاتفاقية التركية الليبية الموقعة الشهر الماضي، على الرغم من أنْ لا مصالح مباشرة لها في المنطقة، ولكنها ترغب في العودة إلى ليبيا التي ارتكبت فيها خطأً بالوقوف إلى جانب نظام معمر القذافي إبان ثورة 2011، فخرجت بخفي حنين بعد نجاح الثورة وإطاحة النظام السابق، لتعمل أخيراً على العودة إلى البلد من بوابة دعم حفتر". وتتابع المصادر: "كذلك تسعى روسيا إلى حماية خط السيل التركي الجديد الذي يفتتح الشهر المقبل لنقل غازها إلى أوروبا، والذي يتعرّض لعقوبات أميركية، فتعمل على بسط شيء من النفوذ في شرق المتوسط، للحصول على مفاوضات أفضل مع أوروبا وأميركا".

وتلفت المصادر إلى أنّ "شكل التعاون الروسي التركي غير معلوم إلى الآن، فيما تهدّد التطورات الميدانية بالاصطدام بين الطرفين مع تحوّل الحرب في ليبيا إلى حرب بالوكالة أيضاً، خصوصاً أنّ الجانب الأميركي الذي لم يتدخّل مباشرةً، قد يجد في الساحة الليبية ميداناً للتصادم التركي الروسي. لذا، تحمل قمة أردوغان وبوتين المرتقبة، آفاقاً هامة لمستقبل تطورات الأوضاع في ليبيا، وستكسب زخماً أكبر في حال الانتقال الفعلي للقوات التركية إلى ليبيا. وبالتالي، من السابق لأوانه الحديث عن آفاق التعاون وسيناريوهاته واستدعاء الحالة السورية، في ظلّ اختلاف الحالة الليبية عنها؛ فاقتسام الجغرافيا والصلاحيات، ونقاط المراقبة وفصل الاشتباك، قد يكون معقّداً في الوقت الحالي بدخول المعركة الليبية مرحلة جديدة، ولكن بالطبع ستكون الحالة السورية حاضرة في المفاوضات الجارية بين الطرفين".

وإزاء التطورات المتسارعة في ليبيا، كان لافتاً كشف مصادر تركية ميدانية تحدثت مع "العربي الجديد" عن تكليف المسؤول العسكري الأرفع في الجيش التركي الذي كان يتولى الملف السوري والذي تحفظت عن ذكر اسمه، مهام أخرى. وقالت مصادر مطلعة إنّ هذه "المهام الأخرى" هي في الداخل التركي، فيما قالت أخرى إنها في ليبيا بعد التطورات الأخيرة فيها، وجدية أنقرة في التدخل العسكري هناك. وقد يكون حديث بعض المصادر عن مهامه في الداخل التركي بمثابة تمويه لمسؤوليات جديدة خاصة بليبيا.

وترتبط المصالح التركية في ليبيا بنقطتين أساسيتين: أُولاها الحفاظ على وجود الحكومة المقربة منها التي تكتسب شرعية دولية، والتي تصون المكاسب التركية في ملفات إعادة الإعمار، وعمل الشركات التركية في البلاد، التي تلقى احتراماً وقبولاً من قبل الليبيين، منذ حكم معمر القذافي وإلى الآن. والنقطة الثانية توقيع الاتفاقية الأخيرة المتعلقة بمناطق النفوذ في البحر المتوسط، وهي التي وحدت المياه البحرية التركية والليبية. وقلبت أنقرة بهذا الاتفاق الطاولة على الاتحاد الأوروبي، وحلف اليونان مع إسرائيل ومصر وقبرص، لاقتسام ثروات الغاز شرق المتوسط، وبات أي مشروع بحاجة إلى موافقة أنقرة. ضمن هذا السياق يأتي التلويح التركي بإرسال قوات عسكرية إلى ليبيا بهدف منع سقوط العاصمة الليبية طرابلس أو الحكومة الشرعية، وحماية الاتفاقية الموقعة مع حكومة السراج، والحفاظ على دورها الهام المتجدد في شرق المتوسط أمام الاتحاد الأوروبي. لكن تركيا لا تريد التصادم مع روسيا مباشرة. وفي السياق، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال، أول من أمس، نقلاً عن مصادر تركية مطلعة، أن أنقرة تتواصل مع موسكو من أجل استكشاف طرق لتجنب أي صدام محتمل، على أن يكون الملف الليبي حاضراً في لقاء بوتين وأردوغان في 8 يناير/ كانون الثاني المقبل.

وفيما أكد المسؤولون الأتراك الذين تحدثوا مع الصحيفة أن أنقرة لا تزال مترددة إزاء إرسال قوات عسكرية رسمية إلى ليبيا، فإن الخيار الآخر المتاح على ما يبدو هو إرسال مستشارين من شركة صادات للاستشارات الدفاعية الدولية، التي تعرّف عن نفسها على موقعها الإلكتروني بأنها الشركة الأولى والوحيدة في تركيا التي توفر الخدمات الاستشارية والتدريبات العسكرية في مجال الدفاع الدولي. وتشير الشركة إلى أنها تأسست من قبل 23 ضابطاً وصف ضابط متقاعدين من مختلف وحدات القوات المسلحة التركية، برئاسة العميد المتقاعد عدنان تانريفردي، وبدأت الشركة تداول عملها بعد إعلانها في الجريدة الرسمية التي نشرت بتاريخ 28 فبراير/شباط 2012.

وفي السياق، قال الباحث في معهد كلينجندل، جليل هرشاوي، في لاهاي، لصحيفة وول ستريت جورنال، إن المواقف الأخيرة، وتحديداً ما يتعلق بمصادقة حكومة الوفاق على الاتفاقية الأمنية مع تركيا، تهدف إلى تعزيز موقف أردوغان قبل لقائه ببوتين. وبرأيه، إن الرئيس التركي "لم يكن ليحدث ضجة كبيرة" إذا لم يكن يعتقد أنه يمكنه التوصل إلى اتفاق مع نظيره الروسي. ولفت إلى أن الطريقة المثلى لإقناع المرتزقة الروس بالخروج من القتال هي من خلال منحهم القدرة على وصول إلى عمل مربح، مثل تشغيل حقل نفط.

وفي انتظار ما سيحمله لقاء الرجلين الشهر المقبل، فإن التطورات الأخيرة في ليبيا والتباين الكبير مع تركيا في هذا الملف، دفع الخبراء والصحافة إلى التساؤل عما إذا كانت موسكو وأنقرة ستستنسخان تجربة التنسيق في سورية على الأراضي الليبية، وما إذا كانتا ستتعاملان مع الملفين ضمن حزمة "لعبة كبرى" واحدة في المنطقة.

وفي هذا الإطار، أشار الخبير في المجلس الروسي للشؤون الدولية، كيريل سيميونوف، في حديث مع "العربي الجديد" إلى أنّ موسكو وأنقرة "تمكنتا خلال السنوات الماضية في سورية من تسوية المشكلات بينهما بمهارة وسرعة عاليتين"، متوقعاً أن يتصدّر الملف الليبي أجندة زيارة بوتين لتركيا ومحادثاته مع أردوغان الشهر المقبل. وقال سيميونوف: "على الأرجح، ستشهد ليبيا استنساخاً لتلك الاتفاقات التي جرى التوصّل إليها في سورية"، مضيفاً أنْ "ليس من المستبعد أن يتصدّر الملف الليبي أجندة المحادثات، لتجري المساومة فيه ضمن حزمة واحدة مع القضايا السورية، في إطار لعبة كبرى واحدة بين بوتين وأردوغان. على سبيل المثال، يمكن الجانبين الرد على تنازلات ما في سورية بأخرى في ليبيا".

وحول التداعيات المحتملة للدعم التركي للسراج بوجه حفتر، المدعوم من موسكو، رأى سيميونوف أنه "إذا كان الدعم التركي لطرابلس والسراج فعّالاً وكبيراً، فذلك قد يقلب موازين القوى التي تسعى روسيا إلى الحفاظ عليها، وقد يؤدي إلى هزيمة حفتر أمام قوات حكومة الوفاق. والمقصود بالهزيمة فشل مرحلة أخرى من محاولات اللواء المتقاعد دخول طرابلس، خصوصاً إذا ما فقد السيطرة على أي مدينة كبرى مثل ترهونة، ما سيسبب إفلاسه سياسياً".

وفي ما يتعلّق بأولويات موسكو من خلال الدعم الذي تقدمه لحفتر بواسطة شركات عسكرية خاصة من دون تدخل عسكري مباشر، قال سيميونوف: "ليس من المهم بالنسبة إلى الكرملين أن يسيطر حفتر على طرابلس، بقدر ما يهمها أن يبقى هو وأنصاره لاعبين فاعلين لهم كلمة حاسمة في الشؤون الليبية. فقد استثمرت روسيا جهوداً وموارد كثيرة في دعم حفتر منذ عام 2014، ولا يتمنى بوتين أن يخسر استثماراته".

ومع ذلك، أوضح سيميونوف أنّ هذا لا يعني أنّ موسكو لا تتواصل مع طرابلس، قائلاً: "روسيا لها مصالح في الدفع بالعلاقات مع السراج، بما في ذلك في مجال عقود النفط مع مؤسسة النفط الوطنية الليبية التي تتخذ من طرابلس مقراً لها". وكان بوتين قد أكّد خلال مؤتمره الصحافي السنوي يوم الخميس الماضي، أنّ "روسيا تتواصل مع حكومة السيد السراج والمشير حفتر على حدّ سواء"، ودعا إلى "وقف أعمال القتال، واتفاق الأطراف المتناحرة على أطر الحكم في البلاد"، محمّلاً الغرب المسؤولية عن تدهور الوضع في ليبيا بعد العملية العسكرية التي نفذها لإسقاط القذافي عام 2011.

وبشأن دوافع أنقرة في دخول المواجهة غير المباشرة مع موسكو في ليبيا، قال سيميونوف إن "المأزق في ليبيا سيستمرّ، ما لم يُزوَّد أحد الطرفين بالمال والجنود والسلاح. ولذلك، باتت تركيا قلقة جداً من احتمال تقديم دعم روسي كبير لحفتر، فردّت على ذلك بدعم حكومة الوفاق. في المقابل، تقلق روسيا وغيرها من حلفاء حفتر مثل الإمارات ومصر، من أنّ الدعم التركي قد يخرج النزاع من وضعه الراهن ويؤدي إلى نجاح حكومة الوفاق، وإبعاد شخصية حفتر عن رقعة الشطرنج الليبية".

من جهتها، حذّرت صحيفة "نيزافيسيمايا غازيتا" الروسية من أنّ النزاع في ليبيا قد يشكّل نهاية للصداقة الروسية التركية، مقلّلة من فاعلية الدعم التركي للسراج ما لم يرافقه التوصّل إلى اتفاقات مبدئية مع موسكو. وفي مقال بعنوان "موسكو وأنقرة عاجزتان عن تقاسم ليبيا"، أشار المحرر العسكري في الصحيفة، فلاديمير موخين، إلى أنّ "الحلول الوسط التي تعلّمت موسكو وأنقرة التوصّل إليها في سورية، لا تزال مقيّدة بمصالحهما الجيوسياسية والاقتصادية".

وتوقّع موخين أن تسعى أنقرة إلى الحصول على تنازلات من موسكو في ليبيا، مقابل تقديم تنازلات في سورية، أي "ضغط" روسيا على حفتر حتى لا يقتحم طرابلس، مقابل سماح أنقرة للنظام السوري بتعزيز مواقعه في منطقة خفض التصعيد في إدلب. ومن مؤشرات استعجال موسكو وأنقرة التوصّل إلى حلول وسط قبل فوات الأوان، إعلان أردوغان في منتصف الأسبوع الماضي، توجه وفد تركي رفيع سيضم نائبي وزيري الخارجية والدفاع، وممثلين عن المخابرات التركية، إلى موسكو في أقرب وقت لبحث الأوضاع في ليبيا وسورية.

المساهمون