بدأت الأزمة التي لم تتناولها وسائل الإعلام المصرية، بصدور فتوى من مجلس الدولة منتصف العام الماضي، تُلزم الدولة بصرف المعاشات بالزيادات الجديدة لكل من القضاة ورؤساء الهيئات الحكومية ذات الطبيعة الخاصة والقيادات الأكاديمية، باعتبارهم معينين على درجة الوزير أو نائب الوزير. وبموجب قانون السلطة القضائية، يكون الرؤساء بالاستئناف ونواب رؤساء الهيئات على درجة نائب وزير، ورؤساء الهيئات على درجة وزير، وذلك بالمخالفة للنصّ القانوني الصريح الذي يقرن صرف المعاشات بالزيادة الجديدة المقررة، بأن يتولى المسؤول منصبه فعلياً، وليس منصباً في حكم أحد المواقع المحددة.
اللافت أن وزارة العدل، رغم رفضها تنفيذ تلك الفتوى، لم تقدم على استشارة المحكمة الدستورية في المسألة إلا بعد صدور حكمٍ عسكري من لجنة الشؤون القانونية للضباط التابعة لوزارة الدفاع، كان بمثابة إنقاذ للدولة من دعاوى قضائية عديدة كان القضاة يهددون برفعها لتنفيذ الفتوى. ورفضت اللجنة العسكرية تطبيق الفتوى على أحد القضاة العسكريين، ما دفع الوزارة إلى طلب تفسير النص القانوني من المحكمة الدستورية، لإنقاذ الخزانة العامة للدولة من نزف لم يكن ليتوقف.
وبعد صدور الحكم، اكتظت صفحات التواصل الاجتماعي بانتقاد القضاة لسياسة النظام في التضييق عليهم وحرمانهم فرص الحصول على مزايا عديدة، ولا سيما في ظلّ استمرار أزمة زيادة ضريبة الدخل المقتطعة من السواد الأعظم من القضاة إلى 22.5 في المائة من إجمالي الدخل، وليس فقط الراتب الأساسي.
وعلى حدّ قول مصدر قضائي رفيع المستوى في محكمة استئناف القاهرة، فإن تناقص المزايا المالية الخاصة بالقضاة في عهد السيسي، ومحاصرة تطلعاتهم لزيادتها بصفة مستمرة، جعلت مئات القضاة، خصوصاً من الشباب، يقدمون استقالاتهم العام الماضي. ويشعر هؤلاء بعدم وجود مزايا تستحق تحمّل العديد من المشكلات الأخرى، مثل التوجيه في القرارات والأحكام، والتدخل في العمل والضغط لزيادة الإنتاج الكمي للأحكام، وخاصة في المحاكم المدنية والأسرية، بحجة تحقيق العدالة الناجزة، فضلاً عن تدخل العديد من الجهات في عمل القضاة بدعوى مراقبة حجم إنجاز عملهم. ومثال على ذلك، الرقابة الإدارية التي سمح لها وزير العدل السابق حسام عبد الرحيم بالتوغل في القضاء.
وفي السياق نفسه، وفي محاولة التملص من الضريبة الجديدة وإتاحة الفرصة لخلق مزايا مادية، كشفت مصادر في وزارة العدل أن نادي القضاة يدعم التحرك لإصدار قانون جديد للسلطة القضائية، على أن ينص صراحة على إعفاء جميع أو بعض الأجور المتغيرة للقضاة من الضريبة.
ويأتي ذلك بعدما فشل مجلس القضاء الأعلى في إقناع النظام بإعادة تقييم أسس احتساب ضريبة الدخل، بحيث يُستبعَد كل من بدل القضاء وبدل التمثيل من الوعاء الضريبي لكل قاضٍ، استناداً إلى البند "الرابع" من قواعد تطبيق جدول المرتبات الخاص بقانون السلطة القضائية الساري حالياً 46 لسنة 1972. من جهتها، تتمسك وزارة المالية باحتساب البدلين، استناداً إلى فقرة أخرى من البند ذاته، التي تنص على أنه "لا يجوز أن يزيد مجموع البدلات مهما تعددت على 100 في المائة من المرتب الأساسي"، وهو الأمر الذي جرى تجاوزه بأضعافٍ مضاعفة، نتيجة التوسع في استحداث وزيادة البدلات للقضاة على مدار السنوات العشرين السابقة.
وكانت مجموعات من القضاة، وخصوصاً في مجلس الدولة، قد بدأوا حشد نواب البرلمان وبعض قيادات الوزارات المعنية، وعلى رأسها وزارة المالية، لإعادة تنظيم شرائح الضريبة على الدخل. ونتيجة ذلك، خُفِضَت النسبة المرتفعة التي تُخصَم من دخول الغالبية العظمى من القضاة حالياً بواقع 22.5 في المائة، إلى نسبة لا تزيد على 15 في المائة من القضاة الذين يحصلون على أعلى الدخول في الهيئات المختلفة، وذلك بعدما فشلت كل محاولات القضاة في إقناع وزارة المالية وأجهزة نظام السيسي بعدم خضوع دخول القضاة ككل للضريبة، وتطبيقها فقط على الأجر الأساسي كما كان يحدث من قبل.
وفي ظلّ تضمن قرار وزير المالية محمد معيط ضرورة احتساب الضريبة بتلك النسبة المرتفعة على القضاة بأثرٍ رجعي يمتد حتى يونيو/ حزيران 2018، موعد صدور القانون الخاص بالشرائح الجديدة رقم 97 لسنة 2018، أصبح الرهان الوحيد هو التخلص من تلك الإجراءات بواسطة تشريع جديد، سواء يعفي جزءاً من دخولهم من الضريبة، أو يعيد تنظيم شرائح الدخول ونسبة الخصم.
وكان مصدر في مجلس الوزراء قد أوضح في وقت سابق لـ"العربي الجديد"، أن القضاة ليسوا الفريق الوحيد الذي يمارس الضغط لتحقيق ذلك، فهناك أيضاً نقابة المحامين مدعومةً بعددٍ من القانونيين المقربين من دائرة السيسي رأساً، وكذلك بعض الغرف التجارية والسياحية. ويصبّ ذلك بالتأكيد في مصلحة القضاة، لكن الحكومة لم تتلق حتى الآن توجيهات من الرئاسة أو الاستخبارات بالتعامل بشكل إيجابي مع تلك المقترحات.
وسبق لمصادر قضائية أن ذكرت لـ"العربي الجديد" أن السيسي ردّ بهذه الإجراءات الجديدة على محاولة القضاة تأمين امتيازات أكبر لهم، من خلال صدور قرارات داخلية في هذه الهيئات، بأحقية أعضائها بتقاضي آلاف الجنيهات الإضافية في صورة بدلات وحوافز مستحقة لهم أسوة بنظرائهم في هيئات أخرى، الأمر الذي سيكلف الدولة عشرات الملايين من الجنيهات في الميزانية المقبلة لكل هيئة.