صراعات الهوية وفشل التحول الديمقراطي

26 نوفمبر 2014

تظاهرة في ميدان التحرير(2فبراير/2011/الأناضول)

+ الخط -

أحد الأخطاء الكبرى التي وقعت فيها بلدان "الربيع العربي"، ولا تزال، تغذية الصراع الأيديولوجي والاستقطاب الهوياتي بين مختلف القوى السياسية والمجتمعية، وهو ما ساهم، إلى حد بعيد، فى فشل تجارب التحول الديمقراطي في هذه البلدان، خصوصاً في مصر وسورية وليبيا. فعلى مدار السنوات الثلاث الماضية، استدعت النخب السياسية، بمختلف انتماءاتها وخلفياتها الأيديولوجية، مخزون خلافاتها وانقساماتها التي سادت فى مرحلة ما قبل الثورات، من أجل تصفية بعضها، وليس لبناء قواسم مشتركة، يمكن، على أساسها، عبور مرحلة التحول الديمقراطي بأقل الخسائر. بل على العكس جرى استنفار كل الخلافات الكامنة، وبدا كل طرف حريصاً على تحقيق مكاسب سياسية فى مرمى خصومه، أكثر من حرصه على تحقيق مصلحة المجتمع، من خلال رؤى توافقية تجمع ولا تفرّق.
ففي مناسبات سياسية عديدة، لجأت القوى السياسية، خصوصاً الإسلاميين، إلى استخدام الدين أداة صراعية مع خصومها السياسيين، وهو ما نثر بذور الانشقاق والانقسام في الشهور الأولى بعد الثورات، مثلما حدث الأمر مع السلفيين في مصر الذين استمرأوا لعبة "تديين" الصراع، من أجل الحفاظ على قواعدهم وجماهيرهم. وبالطريقة نفسها، وربما أسوا، لجأت القوى العلمانية إلى خطاب هوياتي شوفيني متطرف، تماهى مع خطاب الأصولية السلطوية، ليس فقط من أجل تحقيق توازن مع خصومهم الإسلاميين، وإنما لتبرير التخلص منهم، وإقصائهم كليّاً عن المجال السياسي، ولو باستخدام القوة والعنف.
وفي سورية، وقعت الثورة في مأزق الصراع الأهلي الهوياتي بين سنة وشيعة، وعرب وأكراد، وعلمانيين ومتشددين، وذلك بعد أن بدأت ثورةً ضد طغيان النظام السوري. الآن، تبدو الفسيفساء السورية مرآة عاكسة لحالة الانقسام الهوياتي والأيديولوجي، أفقيّاً وعموديّاً، وهو ما يجعل إمكانية بناء مجتمع متماسك ومتصالح مستقبلاً ضرباً من الخيال.

تخبرنا أدبيات التحول الديمقراطي أن ثمة ثلاثة أسباب رئيسية، تقف وراء فشل عمليات التحول، أولها الانقسامات العرقية والإثنية والدينية، خصوصاً في ظل وجود جماعات ومليشيات مسلحة متوازنة، أو قريبة في القوة والعتاد، بحيث تدخل البلاد في دوامة حرب أهلية، من دون قدرة طرف واحد على حسم الصراع لصالحه، وذلك مثلما كانت الحال فى معظم البلدان الأفريقية طوال العقود الثلاثة الماضية. وثانيها تتعلق بالتدهور الاقتصادي الحاد وضعف قدرة النظم الجديدة (نظم ما بعد الثورات) على تحقيق معدلات نمو اقتصادي عالية، يمكنها أن تجعل الناس تؤمن بالثورة، وبجدواها، وترفض العودة إلى الوضع القديم، وذلك مثلما حدث في بعض دول أميركا اللاتينية التي شهدت ثورات فاشلة، وسرعان ما عادت للأنظمة السلطوية. أما ثالثها فيتعلق بالانقسامات الأيديولوجية والهوياتية الحادة التي تؤدي إلى انقسام المجتمع أفقيّاً، وتقلل من إمكانية وجود قواسم مشتركة بين القوى السياسية المتصارعة.
وفي دراسةٍ، نُشرت حديثاً لباحث أميركي بشأن عملية التحول الديمقراطي في العالم، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية عام 1945 وحتى عام 2007، فإن عدد هذه الحالات بلغ حوالي 155 حالة، فشل منها نحو 65 في تحقيق الانتقال إلى الديمقراطية، وارتدت إلى أنظمة سلطوية مجدداً. وذكرت الدراسة أن عوامل كثيرة تقف خلف فشل عمليات التحول الديمقراطي، منها ما أشرنا إليه آنفاً.
وإذا كانت الديمقراطية، فكرة وأداة، تمثل المخرج الملائم لحسم الصراعات بطريقة سلمية، فإن أخطر ما تواجهها هي صراعات الهوية، والتي تعد بمثابة "فيروس"، يقتل كل إمكانات التوافق بين القوى المختلفة، سياسيّاً وأيديولوجيا. وتبدو المشكلة الأساسية، هنا، ليست في الانتماء الأيديولوجي أو الهوياتي، وإنما فى جعله محور الصراع وقبلته، بحيث يتم "تصفيره" وفق منطق "إما نحن أو هم؟". وهو ما حدث حرفيّاً، ولا يزال، في مصر. فكلا الفريقين، الإسلامي وغير الإسلامي، ينظر إلى الصراع، باعتباره "معركة هوياتية"، تتجاوز كل ما هو أهم وأنفع للناس من قضايا اقتصادية واجتماعية ومعيشية.
من هنا، يمكن "تسكين" الدعوات التي ترددت، أخيراً، حول تظاهرات "28 نوفمبر" في مصر ضمن الصراع الهوياتي الذي يكاد يأكل ما تبقى من أمل في إمكانية استعادة الثورة المصرية. وهي دعوات، للأسف، تكرّس منطق الصراع الهوياتي نفسه، وتؤدي إلى مزيد من الانقسام والتشتت. وهي دعوة، وإن حملت معاني وأغراضاً نزيهة لمن أطلقوها، إلا أنها لم تكن موفقة، ليست فقط بسبب إصرارها، مجدداً، على "تديين الصراع" مع النظام السلطوي، وإنما، أيضاً، لكونها لا تحظى بتأييد كل القوى التي تسعى إلى إنهاء السلطوية، واستعادة ثورة الخامس والعشرين من يناير. ويبدو أن من أطلقوا هذه الدعوة لم يتعلموا من أخطاء الماضي، على الرغم من الخسائر والأثمان الكثيرة التي دفعها شباب الثورة، ولا يزالون، من أجل وطن حر يسع الجميع، باختلاف انتماءاتهم وأيديولوجياتهم.

A6B2AD19-AA7A-4CE0-B76F-82674F4DCDE4
خليل العناني

أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة جونز هوبكنز الأميركية. عمل كبير باحثين في معهد الشرق الأوسط، وباحثاً في جامعة دورهام البريطانية، وباحثاً زائراً في معهد بروكينجز.من كتبه "الإخوان المسلمون في مصر ..شيخوخة تصارع الزمن".