صديقي الذي ضيّعه الحب وأنقذته الكرة (3 - 3)

26 يوليو 2018
+ الخط -
لم يكن هناك ما هو أكثر دناءة وقسوة من احتفالية اللعينة بغدرها بصديقنا، إلا نص كلمات رسالتها الوداعية له، ولم يكن مشهد قراءته لتلك الرسالة الصاعقة بحاجة إلى مزيد من الإيلام والعبثية، إلا أن صديقنا تطوع بذلك، حين قام بتمزيق رسالتها بغضب فور الانتهاء من قراءتها، ثم انحنى في لمح البصر على بلاط الكلية ليلملم أجزاءها، وهو يغالب رغبته الملحة في البكاء، ثم أخذ ركناً ليعيد فيه قراءة الرسالة مِراراً ومَراراً، ويشترك معنا في تحليلها وتأملها، وكأنه، وهو البشر الضعيف الذي تغره الأماني، كان ينتظر اكتشاف جملة أو كلمة تقول له إن كل ما جرى لم يكن سوى مزحة سخيفة ومتقنة، أو ربما حلقة من برنامج (الكاميرا الخفية) ستكتمل بظهور إسماعيل يسري ـ نجمها في ذلك الزمان ـ في أحد أرجاء الكلية بصحبة الكاميرا والمصور والمخرج وحبيبة القلب.


لا أذكر نص رسالة اللعينة الآن، لكنه لا يخرج عن الألفاظ والمعاني الآتية: "عارفة إن ما فيش أي تفسير مقنع لكل اللي حصل ده، لكن معلهش دي إرادة ربنا، وانت راجل ومؤمن بالله وعارف إن كل شيء قسمة ونصيب، أنا استخرت ربنا قبل ما أعمل كده، وطلبت منه إنه يهديني للأحسن، وطالما ربنا ما منعش اللي حصل يبقى دي إرادته، أنا متأكدة إن الدنيا مش هتقف عليّا ولا على غيري، ومتأكدة إنك هتكون في أحسن حال، مش هاقولك ما تزعلش مني لإني عارفة إن ده مستحيل، لكن أنا عارفة إنك راجل وابن بلد، وعارف إنه ما ينفعش تسوأ سمعة بنت بقت من نصيب حد تاني"، ثم ختمت الرسالة ببعض الهراء الخرائي عن أمنياتها الطيبة له وتحياتها لأمه وأخته وجدته، وثقتها في مستقبله الأفضل وفي استمرار صلته الدائمة بربنا، وهو ما جعلني شخصياً أحمد الله ـ في سري طبعاً ـ أنها لم ترسل له بعض أوراد الصدمة العاطفية والخوازيق الصابونية نقلاً عن عمها المتصوف.

لم يكن هناك كلام منطقي متماسك يمكن أن يقوله أي منّا بعد تلك الرسالة القاصمة، لذلك توالت ارتجالات أصدقائنا التي حدثتك عنها من قبل، بينما قررت أنا التزام الصمت "المهيب" والاكتفاء بهز الرأس المتدرج حسب أهمية ما يقال، لكي لا يؤدي أي تدخل خاطئ من لساني "المِدبّ" إلى زيادة النزيف، لكننا على اختلاف درجات تدخلنا بالفتي والتحليل والمساندة، لم نترك صديقنا في لحظات نزيفه، واستعدنا على مدى الأيام التالية روح التضامن القوية التي حضرت لأول مرة بيننا خلال مرض والدته، لنعاود التردد بانتظام على شقة باب الشعرية، التي عادت إليها أمه وأخته، ليكونا إلى جواره في محنته، ليزيده وجودهما عصبية ونزقاً، ويضطرنا لإقناعهما بأن كل شيء لن يصبح أفضل نوعاً ما، إلا حين يستعيد إيقاع حياته القديم، وأن من الأفضل تركه لجدته ولنا، وقد كنا محقين في ذلك، فقد نجح صديقنا بصلابة في استعادة إيقاع حياته، لكنه لم ينجح أبداً في استعادة تلك الإشراقة "المُسبهلّة" التي طرأت على وجهه خلال فترة تحققه العاطفي القصيرة، ليعود إلى تجهمه واشمنئاطه وسخريته المريرة من كل ما في الكون.



كنا وقتها نقترب من الأشهر الأخيرة في عامنا الجامعي الأخير، ولذلك كان من البديهي في نهاية مرحلة كهذه أن يصل معدل الانتشار الصابوني في الأرجاء المحيطة إلى ذروته، ومع أن أحداً لم يتلق طعنة علنية مثله، حتى أنا، فقد اتضح أن جرحي لم يكن غائراً، بل كان جرحاً قطعياً، سرعان ما داوته كتابة الشعر وقراءة الروايات وإدمان الخوف من الفشل المُضيّع لفرصة التفوق التي لم أكن أملك غيرها، ومع ذلك فقد أفادنا كثيراً الاشتراك في خيبة الأمل بدرجاتها المختلفة، وأنقذتنا السخرية المريرة، خاصة أن ضغوط الدراسة والخوف من المستقبل القادم كانت قد ذهبت بما تبقى من عقول بعضنا، فأخذوا يرتكبون حماقات مدوية في حياتهم الشخصية والعملية، سأرويها لك في مناسبات أخرى، وهو ما جعل صديقنا يبدو أسطورياً في تلقيه للطعنة الغادرة، خاصة حين أكمل العام الدراسي بتقدير جيد، دون أن "يشيل" أي مواد كما كنا نخشى، ودون أن يخونه ثباته الانفعالي على الملأ، كما حدث لي ذات مرة سأحكي لك عنها لاحقاً، وهو ما جعلنا فخورين بصلابته العاطفية وثباته الانفعالي، لكنه جعلنا في الوقت نفسه نخاف من قدوم لحظة الانهيار، التي علمتنا المسلسلات العربية أنها لا تأتي إلا لمن لا يتضعضعون لريب الدهر.

بعد أن تخرجنا بفترة قصيرة، جاءت لحظة الانهيار التي كنا نخشاها، وكان أخطر ما فيها أنها كانت هادئة جداً، بحيث تُصعِّب مهمتك في التعامل معها كلحظة انهيار، فلا أنقاض هناك ولا غبار ولا صرخات تطلب الإنقاذ، بل وجه جامد تكسوه ابتسامة عريضة متسائلة عن سر ذعرك مما تراه، كان ذلك حين علمنا أن صديقنا قد استلم عمله الأول بعد التخرج، وكان سباقاً في نيل وظيفة ثابتة، مقارنة بكثيرين منا، لكن عمله لم يكن في شركة كبرى كما كان يتصور وكما كنا نرجو، بل في شركة نظافة هولندية، وما زلت أذكر مزيج الانفعالات الذي اعتراني حين سمعت بتلك التركيبة (شركة نظافة هولندية)، وكيف ندّت مني شخرة طويلة حزينة ومندهشة في آن واحد، لأنني كنت أريد أن أفهم سر شركة النظافة على حدة، ثم أفهم بعدها علاقة هولندا بنظافتنا، خاصة أن الشوارع التي نمشي في مناكبها كل يوم لا علاقة لها بالنظافة ولا بهولندا كما لعلك تعلم، قبل أن نعرف أن تلك الشركة متخصصة في العمل داخل المنشآت السياحية وفروع الشركات الكبرى، وأن وظيفة صديقنا التي حصل عليها عن طريق زميل دراسة قديم، لا علاقة لها بمجال العلاقات العامة التي لا تحتاج لها شركة كهذه تنفذ عقوداً محددة، بل هي وظيفة إدارية ربما حصل عليها لثقة صديقه فيه.

حين بدأنا وقائع أول جلسة استتابة لصديقنا ليقلع عن فعلته ويسارع باختيار فرصة عمل أفضل، بادرنا بإعلان المبلغ الذي سيقبضه كل شهر، فضلاً عن ما وُعِد به من مكافآت "وبونس" وإجازات مدفوعة ووعود قاطعة بالتدريب في الفرع الأم في هولندا، وإمكانية السفر لاحقاً إلى فروع أخرى في دول خليجية، فأصبحت مهمتنا في الحوار معه صعبة، خاصة وأجعصنا حظاً كان سيتقاضى في ثلاثة أشهر ربع ما يتقاضاه صديقنا في شهر، كما أن بعضنا واجه في فترة التدريب الصحافي التي تلت التخرج اختبارات نفسية مزلزلة، ولم ينجُ من عناء تلك الفترة إلا من سبق له مثلي أن بدأ العمل أثناء فترة الدراسة، وأزعم أن تجربة صديقنا كانت مغرية ومحرضة، لبعض من واجهوا صعوبة في التأقلم داخل المؤسسات الصحافية المليئة كغيرها بالمرضى روحياً والمعقدين نفسياً، فتطرف بعضهم في القبول باختيارات مضمونة، لدرجة أن أحدهم ـ وسأنبئك عنه فيما بعد ـ وافق على القبول بوظيفة ملاحظ سائقين في شركة بترول في قلب الصحراء، مع أنه كان متفوقاً في كتابته الصحافية.

لذلك، جاءت التجارب الصعبة التي خاضها كثيرون منا لاحقاً، داعمة لقرار صديقنا الذي ظل يذكرنا بأنه كان واضحاً مع نفسه منذ البداية، حين رفض العمل في الصحافة بشكلها الحالي، وحين بدا لنا خلال لقاءاتنا التالية أنه مع مرور الأيام يمضي في حياته رابط الجأش متصالحاً مع اختياره، حتى إن تصاعد نبرة السخرية من موضوع شركة النظافة لم يعد يضايقه، بل كان يشارك فيه برحابة صدر، مهما تصاعدت فجاجتنا فيه، مما جعل السخرية منه تكتسب بواخة تزعجنا أكثر مما تزعجه، خاصة أنه ظل لفترة الوحيد الذي يقبض بانتظام، قبل أن ينضم إليه صديقنا البترولي، وقبل أن تتحسن أوضاعي الاقتصادية مع تصاعد نجاح الصحيفة التي عملت فيها وتوسُّع مهامي فيها، فنتوسع أنا وهو في ممارسة هوايتنا في اقتناء الكتب والأفلام وسيديهات المزيكة، فأعجب بقدرته على استثمار وقت فراغه في قراءة منظمة جادة ومتنوعة، جعلت النقاشات المستمرة معه تكتسب جدية وجمالاً إضافيين، في الوقت نفسه الذي لم تتوقف انفجاراته الغاضبة في وجهنا كلما خيّب الزمالك أمله في الدوري والكأس، لتختفي تلك الانفجارات حين دارت الأيام وعاش الزمالك سنوات عز عابرة في مطلع الألفية الثالثة.

كانت دائرة اطلاعي أنا وأبناء أيامي على الكرة العالمية والأوروبية بالتحديد قد اتّسعت مع انتشار القنوات الفضائية التي تنقل كافة أصناف المباريات على الهواء مباشرة من استادات الدنيا، لتزيد معها بالتبعية دائرة اهتمام الصحافة الرياضية المحلية بالكرة العالمية، خاصة مع اتساع بيزنس الصحافة الرياضية في الوطن العربي، ومن هنا جاء شغف صديقنا القديم لينقذه من البقاء إلى الأبد في شركة النظافة الهولندية، التي لم تعد مثاراً للضيق، لكونها شركة نظافة ولا لكونها هولندية، بل لكونها شركة، العمل الوظيفي المنتظم فيها مثل غيرها، يسير برتابة تهلك روح من لم يكن متصالحاً معه، مما جعل صديقي برغم كل ما يحصل عليه من مزايا مادية، يتوقف عن خداع نفسه، ويدرك أنه لم يخلق لوظيفة كهذه، وأنه لن يتمكن من العيش بقية عمره بصحبة أناس لا يمتلكون شغفاً من أي نوع، سوى الشغف بقدوم إجازاتهم السنوية، ليسافروا إلى هذا الساحل أو تلك القرية السياحية، لإنفاق جزء لا بأس به من مدخراتهم.

كان بيت باب الشعرية قد فقد بهجته بعد وفاة الجدة التي جاءها الموت كما تمنته، هادئاً رفيقاً بها، فزارها على سريرها في باب الشعرية، التي صمد بيتها لتقلبات الأرض، لكنه لم يصمد للخواء والوحشة بعد رحيلها، لينتقل صديقنا إلى شقة المطار ليؤنس وحدة والدته بعد زواج أخته، وليكون أيضاً قريباً من مقر عمله، فصرنا نلتقي لديه هناك، حين نجتمع لمشاهدة مباريات كأس العالم وكأس الأمم الأوروبية وكأس الأمم الأفريقية، وكلها أحداث مبهجة للنفس، لم يكن يطيب لنا مشاهدته إلا معه، لنستمتع بما كان يقدمه من معلومات عن كل لاعب ومدرب وفريق وحَكَم وحامل راية، حتى إن أحدنا نصحه بأخذ دورات في التعليق الرياضي خارج مصر، لأنه لو أتيح له أن "يمسك حديدة" ليتحدث فيها، كما كان يحدثنا خلال إذاعة المباريات وبنفس الحماس والروح الساخرة، لكان إضافة نادرة في مجال التعليق الرياضي في بلادنا، والذي يظهر فيه خفيف ظل واحد من بين كل ألف رغّاي وهجّاص وفاقع للمرارة والخصية، فضلاً عن أن يظهر فيه من يضيف لك بخفة ظل معلومات لها لازمة، ترفع استمتاعك بما تشاهده.

لم يكن صديقنا يرى نفسه كمتحدث مفوّه، خاصة أن عقدة لسانه لا تنفك إلا بيننا، لذلك لم يتحمس لاقتراح تغيير "كاريره" إلى التعليق الرياضي، لكنه تحمس بشكل فاجأني حين حملت إليه عرض عمل من صحافي رياضي كبير، كنت قد تعرفت عليه في إحدى جلسات النادي النهري للصحافيين مع العم محمود السعدني عليه ألف رحمة ونور، وربطتنا وقتها صداقة عميقة، وحين وقعت انفجارة الصحافة الرياضية العربية التي أشرت إليها سابقاً، جاءت لذلك الصحافي فرصة افتتاح مشروع صحافي رياضي كبير في دولة عربية، وكان يواجه مشكلة في إيجاد صحافيين مصريين متخصصين في كرة القدم العالمية، لأن أغلب من كان يعمل في هذا المجال كانوا مترجمين، أكثر من كونهم متابعين حقيقيين للدوريات والبطولات المختلفة، ولذلك كانت الأخطاء التي يرتكبونها في نقل بعض الأسماء وترجمة بعض المصطلحات تثير ضحك وسخرية قراء الأجيال الجديدة من مدمني الدش والإنترنت، وحين حكيت له عن صديقنا ومعرفته الرياضية الموسوعية التي ساعده الإنترنت على تطويرها، قال لي إنني لو لم أكن أبالغ في الحديث عنه وعنها، فإنه سيكون له نجدة من السماء.

لم أكن أتوقع سرعة استجابتنا للعرض الذي اقترحته عليه، خصوصاً أنه كان يتطلب تركه الفوري لوظيفته والتفرغ لعمله الجديد الذي كان سيحصل منه على مقابل مادي أقل بكثير، ما زلت أذكر جيداً ملابسات ذلك اليوم الذي رأيت فيه إشراقته القديمة تعود، وهو يحتضنني شاكراً ومهللاً، لأكتشف أنه كان يكابر حين كان يحدثنا كثيراً عن سعادته بما استقر عليه وفيه. كنا يومها في شقة والدته التي ازدحمت بكتبه وأفلامه وسيديهاته، وكنت عازماً على أن أستعيد كل ما استعاره مني من كتب وأفلام، كنت أجعله يوقع على استلامها والتعهد بإعادتها أولاً بأول، مذكراً إياه في كل مرة بنذالته السابقة معي في كتاب (الصنداي تايمز) التذكاري. كان قد عاد من دورة تدريبية في هولندا، وكانت أمه مقيمة طول سفره لدى أخته، وكنا قد قابلناه فور عودته من المطار، لنذهب إلى شقته ونشاهد مباراة مهمة في كأس ما، وكنت أنوي أن أفاتحه بعدها في العرض الجديد الذي توقعت رفضه له.

فور دخولنا الشقة شممنا رائحة كريهة لم أكن قد شممت مثلها من قبل، على كثرة ما شممت من أحط الروائح، لدرجة أنها أفشلت محاولاتنا لتخفيف وقعها بالسخرية والإفيهات، فأخذنا نبحث في أرجاء الشقة عن مصدر الرائحة، حتى وجدنا فأراً ميتاً خلف الكنبة التي كنا سنستقر عليها لمشاهدة المباراة، كنا قد حملنا من مطعم السندوتشات الكائن أسفل بيته تشكيلة من أفضل ما يمكن أن تتخيل الحصول عليه من مطعم سندوتشات، ولأني كنت ـ وما زلت وسأظل ـ من عشاق كل ما له علاقة بالباذنجان، فقد كان ذلك المطعم من المطاعم التي أشدّ إليها الرحال من حين لآخر، انبهاراً بقدرة صنايعي السندوتشات فيه على صنع أشكال مختلفة من "مشتقات البتنجان" يطول شرحها هنا، ولأنه كان من الصعب أن نأكل أو أن "نطفح" في ظل بشاعة الرائحة التي لم يُزلها إخراج جثة الفأر الذي أطلقنا عليه اسم اللعينة وسط نوبات ضحك هستيرية، والتي قررنا ألا ندفنها بل أن نرميها على قارعة الطريق لتكون عبرة لكل من تسول له نفسه الخيانة والغدر، ولأنه لم يكن في المكان وقتها قهوة قريبة، فقد انتهى بنا الحال ونحن نأكل السندوتشات على رصيف الشارع، في انتظار تحسن رائحة الشقة، لنصعد إليها شبعانين متلهفين لإكمال رؤية المباراة، وليكون أول ما فعله الاتصال بوالدته لإخبارها بالعرض الذي بلغه على الرصيف، وبموافقته النهائية عليه دون حاجة إلى تفكير أو تشاور، وأخيرا طمأنتها بالتخلص من الفأر الذي كان سبباً في هجرها البيت.

لم يصدق أحد في شركة النظافة جدية صديقنا في التخلص من نعيم وظيفته الثابتة، خاصة بعد أن أبدى رئيس التحرير انبهاره به من أول لقاء، فأخذ يسأله أين كان من زمان، وكيف تلجأ موهبة نادرة مثله للعمل في شركة مقاولات هولندية ـ لم يكن من الحكمة ذكر مسألة شركة النظافة لأسباب تتعلق بالإيقاع والبرستيج ـ وحين أبدى صديقنا إلى جوار معرفته الموسوعية موهبة في التقاط الأخطاء من بين الموضوعات المترجمة التي قدمها له رئيس التحرير، وأضاف إليها قدرة سريعة على الترجمة، لأنه ببساطة يعرف ما يقرأه جيداً، وليس بحاجة إلى البحث عنه على الإنترنت، فلم أندهش كثيراً حين تلقيت من رئيس التحرير مكالمة حافلة بالشكر والتقدير والابتهال إلى الله بأن يكرمني كما أكرمته بذلك الاكتشاف النادر.


كانت كرة القدم حاضرة بقوة في اللقاء الطويل الأخير الذي جمعني بصديقي قبل سفره لاستلام وظيفته، حين حضرنا سوياً مباراة ودية بين مصر والإمارات أجريت في ستاد القاهرة، في وقت كنا لا نزال نحلم بأن عودة الكابتن محمود الجوهري لتدريب منتخبنا القومي، ستعيدنا إلى كأس العالم من جديد، وستذهب بنا إلى كوريا واليابان، لتنزل علينا عدالة السماء هناك، بعد أن توقفنا عن رؤيتها منذ أن نزلت علينا في باليرمو، كنا نخطط لذهاب الشلة كاملة إلى الاستاد ليكون في ذلك التجمع وداعاً رمزياً يليق بمناسبة تغيير صديقنا لمسار حياته، لكن ظروف الحياة لم تسمح إلا بذهاب أربعة منا إلى المباراة التعيسة، التي لم يبق منها في الذاكرة سوى لقطات لعنف متبادل بين اللاعبين المصريين والإماراتيين، ذكرتنا بما حدث في مباراة "ودية" سابقة بين الفريقين، حين رأينا على الشاشة لاعباً إماراتياً يضرب لاعباً مصرياً في وجهه، بينما المعلق يصرخ قائلاً: "والله إخوة والله إخوة".

كان الكابتن الجوهري عليه ألف رحمة ونور موهوباً كعادته في تمويت اللعب وقتل إحساس الاستمتاع لدى كل من يشاهد فريقاً يدربه، ولذلك كان من الطبيعي أن تظهر على صديقنا أعراض العصبية القديمة التي كنا قد اشتقنا إليها، فبدأ يلعن سنسفيل الكرة المصرية التي لا علاقة لها بما وصل إليه العالم من مشرقه إلى مغربه، مؤكداً أن من يلعب بهذه الروح الانهزامية أمام فريق عادي كفريق الإمارات، سيشيل الطين إذا لعب مع فرق قوية متروسة بالمحترفين. برغم عصبيته المبررة، لم يكن صديقنا غِرّاً لينسى خطورة التفوه بكلام تحليلي أو جاد في مدرج درجة ثالثة، فلو لم يكن المدرج حولنا يضج بالغضب المكتوم لما جرؤ على التفوه بكلمة مما قاله، لأنه لم يكن يعترض فقط على أداء اللاعبين أو خطة الجوهري في إدارة المباراة، بل كان يقوم بالتجديف في حق الجوهري أسطورة الكرة المصرية الحية، ويطعن في شرعية الإنجاز الوحيد الذي حققه من قبل، وهو ما كان يهدد بفتح باب للجدل كنا سندفع ثمنه حتماً، لأن المدرجات خلقت للغضب والهياج، ولم تخلق للتأمل وإعادة قراءة الواقع.

وبينما نحن في ذلك الكرب، إذ أقبل علينا فجأة واحد من أساطين التشجيع الكروي قبل ظهور عصر الأولتراس، كان الكل يعرف أنه يحصل على أموال من المدربين ومجالس الإدارات واللعيبة أحياناً، ليعدل دفة الجماهير إذا انقلب مزاجها، وحين بدأ الرجل لحظتها في محاولة إحياء من ماتوا في مدرجات الترسو بهتاف قال فيه: "يالله يا جوهري يا فنان، إيدنا في إيدك ع اليابان"، شعرت وقتها بإهانة عميقة ليس فقط لي كمشجع كرة، بل لي كإنسان وككائن حي، لأن ما كنا قد رأيناه من أداء المنتخب في كافة مبارياته الودية والرسمية لم يكن ينبئ بأي خير وأي يابان، فوقفتُ صارخاً لأقلب الهتاف على رأس صاحبه: "يالله يا جوهري يا فنان، إيدنا في .... ع اليابان"، لينفجر من حولي بالضحك، وأتلقى زغرة تهديد صارخة من "الكابّو"، لم تدم حين وقف صديقي متضامنا ومشجعاً وأخذ يكرر هتافي بانفعال، فيشجع من حولنا على ترديد الهتاف الغاضب، الذي سرعان ما ردده كل من في الترسو ثم كل من في الاستاد، بل إنه عَبَر بعدها الأثير ودخل أسماع مشاهدي البيوت كما عرفنا لاحقاً، لينبهني صديقي الواعي إلى أن لحظة اشتعال المدرجات بالهتافات الغاضبة، هي بالذات لحظة الانسحاب "والتسحّب" الحتمية من الاستاد، لأن البقاء حتى نهاية المباراة يعني تأديبنا حتماً ولزماً على أيدي الكابّو ورفاقه من مهاويس الجوهري، ومع أنني رفضت الاقتراح مكابراً، رغبة في استكمال عيش تلك اللحظة النادرة التي لا تتاح لكثيرين، إلا أن كل الذين كانوا أكثر خبرة مني بخبايا المدرجات، أجمعوا على أن اقتراح صديقي الواعي، أنقذ كرامتي من لحس خرسانة المدرجات أو نجيلة الاستاد أو الاثنين معاً، لو كنت صممت على البقاء حتى النهاية.

لم ينقطع ضحكنا بعد خروجنا من الاستاد، بل تواصل حين رأينا تسجيل الماتش، وحين استعدناه مع أصدقائنا الذين لم يحضروا في جلسة الوداع الأخيرة التي استعدنا فيها القديم والجديد، واكتشفنا أن مواجعنا كلما قلبناها لا تأتي إلا بالمزيد من الضحكات، لتكون تلك الجلسة الأكثر حضوراً في ذاكرتنا ووجداننا، خصوصاً حين باعدت بيننا الأيام، فأصبحت أرى صور صديقي التي ينشرها من رحلاته لتغطية المونديالات المتوالية وبطولات كؤوس الأمم الأوروبية والأفريقية، أكثر من رؤيتي له على مقهانا المختار، وبالطبع لم يكن أحدنا ليصدق، لو قيل له إن الدنيا ستفرقنا عن بعضنا، فلن نحضر أفراح بعضنا ولن نرى أنجال بعضنا، ولن يبقى لنا إلا ضحكات مجلجلة شاخرة أحياناً ومغمّسة بالشجن كلما تذكرنا أيامنا الحلوة وليالينا الكئيبة، ثم يبقى منها أيضاً عظة وعبرة لعلها تنفع أحداً، عن ضرورة وجدوى الشغف بأي شيء، الشغف الذي يمكن أن ينقذ إنساناً ويغير مسار حياته، مثلما أنقذ الشغف بكرة القدم صديقنا الذي ظننا أن الحب قد ضيّعه إلى الأبد.

دلالات
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.