صدى هزائم حفتر يتردد اتهامات سياسية في تونس

10 مايو 2020
تقود موسى حملة لإعلان رفض التدخل بليبيا(فتحي بلعيد/فرانس برس)
+ الخط -
سكنت الأحزاب التونسية طويلاً منذ دخلت جائحة كورونا إلى البلاد، إلى حدّ أنّ مراقبين كثراً اشتكوا من هذا الصمت غير المفهوم، على الرغم من أنّ البلاد تعيش تحدياً غير مسبوق على مستوى أمنها وأمن شعبها، وبقية المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وأمام نجاح الحكومة في إدارة أزمة كورونا، لم تجد هذه الأحزاب مجالاً للتحرك على عادتها، واكتفت بالفرجة، خصوصاً معارضي حركة "النهضة" والأحزاب التي أقصت الانتخابات أغلبها من المشهد، إذ كانوا يتابعون على مضض صعود نجم وزير الصحة عبد اللطيف المكي (القيادي في النهضة) من خلال إدارته للملف وتزايد شعبيته.

غير أنّ هذا الصمت لم يدم طويلاً مع اتخاذ قوى سياسية من تأجج الحرب في ليبيا إلى جانب مشروعي اتفاقيتين اقتصاديتين مع تركيا وقطر عناوين رئيسية لعودة السجالات السياسية، خصوصاً أن كل ما يتعلق بأنقرة والدوحة يعد ملفاً محبباً ووحيداً تقريباً لكثيرين لا يملكون من برنامج سياسي سوى معاداة حركة "النهضة".
ومع الهزائم المتتالية للواء المتقاعد خليفة حفتر ارتفعت حدة توتر هؤلاء، وأصبح كثير منهم اليوم يندد بالتدخل الخارجي في ليبيا، بعد أن صمتوا طويلاً خلال تقدّم حفتر السابق نحو العاصمة الليبية طرابلس، بل إنّ بعضهم أطلق الاحتفالات عندما أعلن اللواء الليبي أنه سيطر على المدن القريبة من الحدود التونسية، فيما لم يصدروا أي موقف بعد تهديدات وجهتها مجموعة من مقاتليه للتونسيين، متوعدين بقصف مدنهم.

وقادت الأمينة العامة لـ"الحزب الدستوري الحر"، عبير موسي، هذه المعارك في البداية. إذ قدمت قبل أسبوع، مشروع لائحة بالبرلمان قالت إنها تهدف إلى إعلان رفض التدخّل الخارجي في ليبيا، ومناهضة تشكيل قاعدة لوجستية على الأراضي التونسية للتدخل في ليبيا، في محاولة لعرضها على الجلسة العامة للتداول والمصادقة عليها طبقاً لمقتضيات الفصل 141 من النظام الداخلي للمجلس. كذلك دعت موسي إلى مساءلة رئيس البرلمان راشد الغنوشي عن اتصالاته الخارجية.

ووصف عصام الشابي، الأمين العام لـ"الحزب الجمهوري التونسي"، أحد أعرق الأحزاب التونسية، هذه الخطوات بـ"محاولة نجدة قائد قوات شرق ليبيا المشير خليفة حفتر من تحت قبة البرلمان التونسي". وكتب الشابي في منشور عبر صفحته في موقع فيسبوك: "عندما تهبّ عبير موسي لنجدة خليفة حفتر باقتراح مشروع لائحة برلمانية، فاعلم أنّ محور الإمارات في ليبيا يعاني صعوبات غير مسبوقة فرضت التعجيل ببعث رسائل له من تحت قبة باردو (مقر البرلمان)".

وكان الشابي قال في تصريح سابق لـ"العربي الجديد"، إنّ "بعض الأطراف التي أيدت سابقاً التدخل الخارجي في ليبيا من قبل القوات الروسية والإماراتية والمصرية وغيرها، تهب اليوم للأسف لنجدة حفتر عندما لاحظت أن حليفها يعاني صعوبات ويتقهقر، في الوقت الذي كان يرفض وقف إطلاق النار عند زحفه باتجاه طرابلس". ولفت إلى أنّ "البعض تذكر اليوم بأن يطالب مجلس نواب الشعب ويدعوه للمصادقة على لائحة ترفض التدخل الأجنبي في ليبيا".

وكانت وزارة الدفاع التونسية، قد نفت في نهاية إبريل/نيسان الماضي، ما روّجته بعض المواقع الإلكترونية من "شائعات مغرضة حول استعمال قوى أجنبية للأراضي التونسية منطلقاً لعمليات عسكرية"، وقالت إنّ ذلك "لا أساس له من الصحة"، مؤكدةً أنّ هذه الادعاءات غير مسؤولة وتحاول النيل من سيادة تونس وأمنها القومي.

وإذا كان مفهوماً أن تتخذ موسي هذه الخطوات بسبب استراتيجيتها المعلنة والواضحة في معاداة "النهضة" ورئيسها الغنوشي، فإنّ أحزاباً أخرى زايدت على موسي، ليس بالضرورة دفاعاً عن حفتر، وإنما لمنع الأمينة العامة لـ"الحزب الدستوري الحر"، من تصدّر واجهة معارضي "النهضة"، والمعارضة عموماً في البلاد، خصوصاً أنّ هذه الأحزاب تكاد تختفي تماماً من المشهد، فيما تكاد موسي تسيطر بالفعل على الفضاء المعارض في البرلمان وخارجه.

من جهتها، نشرت أحزاب "التيار الشعبي" وحزب "العمال" و"الحزب الاشتراكي" و"حركة البعث" و"حركة تونس إلى الأمام" وحزب "القطب" (وأغلبها أحزاب كانت ضمن الجبهة الشعبية اليسارية قبل خلافاتها) بياناً مشتركاً يوم الجمعة الماضي، دانت فيه "كلّ محاولة للزجّ بتونس في لعبة المحاور الإقليمية مهما كانت، على حساب أمنها القومي وعلى حساب أمن واستقرار الشعب الليبي ودماء أبنائه". وطالبت رئيس الجمهورية قيس سعيّد بموقف واضح من محاولات تركيا التواجد عسكرياً في ليبيا، سواء بشكل مباشر لما يشكّله هذا الأمر من خطورة كبيرة على الأمن والسلم الإقليميين، أو بشكل غير مباشر من خلال جلب "المرتزقة"، في إشارة إلى اعتراض على الطائرة التركية التي حطت جنوب تونس أخيراً، محملةً بتجهيزات طبية في اتجاه ليبيا. وعلى الرغم من أنّ الرئاسة أوضحت أنها تابعت الطائرة وأذنت لها بتحويل حمولتها الطبية تحت إشراف الأمن والجمارك التونسية، وأنها ستتكفل بنقل هذه المساعدات إلى ليبيا، وعلى الرغم كذلك من أنّ حمولة الطائرة كشفت يوم الجمعة الماضي أمام الجميع، إلا أنّ حزب "مشروع تونس" لم يجد إلا أن يندد بتحويل مساعدات طبية إلى غرب ليبيا، وحرمان الشرق منه.

من جهة أخرى، أثار مشروعا اتفاقيتين اقتصاديتين مع تركيا وقطر جدلاً في تونس، وافتقرت أغلب الانتقادات لأي موضوعية، بل إنّ هناك من ندّد بالاتفاقيتين حتى من دون الاطلاع عليهما. علماً أنّ الاتفاقية الأولى مقرّة بين الحكومة التونسية و"صندوق قطر للتنمية" حول فتح مكتب للأخير في تونس، والثانية تتعلق باتفاق التشجيع والحماية المتبادلة للاستثمارات المبرم في 2017 بين تونس وتركيا.

وعلى عكس ما روّج له البعض، لم يتم رفض الاتفاقيتين ولا معارضتهما من قبل البرلمان، وإنما تمّ تأجيل النظر فيهما من طرف الحكومة نفسها في وقت سابق، بسبب التزامات ملحة للأخيرة، فيما تجد الاتفاقيتان مساندة أحزاب وازنة في البرلمان، بإمكانها تمرير المصادقة عليهما بكل يسر.

وبقطع النظر عن وجاهة بعض الانتقادات التي ناقشت محتوى الاتفاقيتين، وهو حق مشروع وواجب على الأحزاب والخبراء والمراقبين، ويهدف إلى تعديلها، فإنّ بقية الرافضين بالمطلق للاتفاقيتين يتناسون مثلاً أنّ الصندوق القطري موّل إلى حدّ الآن أكثر من 800 مسكن اجتماعي و5 مدارس و10 مراكز صحية وقرية حرفية، فضلاً عن تمويلات مشاريع صغرى للشباب بحوالى 100 مليون دولار، بما وفّر نحو 50 ألف فرصة عمل.

في السياق، أكد الخبير الاقتصادي ووزير التجارة الأسبق، محسن حسن، أنّ "بعض المواقف حددتها الانتماءات الحزبية والأيديولوجية، من دون دراسة قانونية واقتصادية علمية تضع مصلحة تونس فوق كل الاعتبارات والولاءات". وقال حسن في تصريح صحافي له أخيراً: "درست بكل تدقيق مشروع هذه الاتفاقية (مع قطر) ولم أجد ما يمسّ سلباً سيادتنا المالية أو الاقتصادية، بل على العكس، أعتقد أنّ بلادنا في أمسّ الحاجة إلى تواجد كل الصناديق السيادية الخليجية في تونس لدفع الاستثمار وتمويل الاقتصاد وتطوير التعاون العربي في هذا المجال". وتابع: "آن الأوان أن تتنازل الطبقة السياسية عن كبريائها، وتقتنص كل الفرص المتاحة لتطوير التعاون الدولي والمساهمة في خلق النمو الاقتصادي الدامج بعيداً عن الصراعات الوهمية".

من جهته، اعتبر النائب عن حركة "النهضة"، معز بلحاج رحومة، في تصريح صحافي له أخيراً أنّ "حملات إعلامية ممنهجة ممولة من بعض الأطراف الخارجية التي لديها أجندات خاصة، تدفع بتونس إلى أن تكون سجينة الاتفاقيات التقليدية القديمة، وأساساً رهينة بعض الدول الأوروبية وبعض اللوبيات التي تخدم أجندات واضحة إقليمياً ودولياً".

أمّا السفير التركي في تونس، رفيق علي أوننار، فقال في حوار مع إذاعة تونس الدولية الناطقة بالفرنسية (حكومية) إنّ الاتفاقية التي سينظر فيها البرلمان التونسي بين الدولة التونسية والدولة التركية "ليست اتفاقية جديدة، بل هي تحيين (تعديل) لاتفاقية سارية المفعول منذ سنة 1991".

وعلى الرغم من هذا الجدل الداخلي الذي تثيره بعض الأحزاب التونسية، فإنّ صدى الحرب الليبية في تونس لا يمكن أن يغيّر من موازين القوى على أرض المعركة في ليبيا، والإرباك الداخلي لن تكون له فاعلية سياسية كبيرة على المشهد التونسي الحالي، الذي قد يتأثر بنتائج المعركة على جائحة كورونا وما سيلي ذلك من تداعيات اجتماعية واقتصادية فعلية، وليس بمعركة خارجية (على الرغم من ارتباط تونس بها) تتدخل فيها قوى عظمى وتحدد مآلاتها وشخوصها. كما أنّ معارضة تركيا في تونس وقصف حركة "النهضة" أو الرئيس قيس سعيد سياسياً، لن ينجحا في تقديم أي عون ملموس لحفتر في أزمته الحالية، علاوة على أنّ هذا الأسلوب فشل في تونس في عهد الرئيسين السابقين المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي، ولم يمكّن هذه الأحزاب من كسب أي رصيد شعبي إضافي في الانتخابات التي خاضتها، بل إنّ العكس هو الصحيح. الموقف التونسي من الصراع في ليبيا لم يتغيّر أيضاً، وبقي على الحياد الإيجابي والانتصار للشرعية الدولية ودعم أي فرصة لحوار ليبي-ليبي حقيقي ينهي الأزمة.

المساهمون