تصدّى عباس محمود العقّاد (1889 - 1964) إلى أحد رموز التاريخ الإسلامي، وهو عمر بن الخطاب (590 - 647م)، وجهد في "محاسبة" إرثه السياسي بوصفه الخليفة الثاني الذي ابتدأ فعليّاً تشييد "دولة الخلافة" وعمل على تمكينها وتمدّدها. ولذلك خصَّص، من سلسلة "العبقريات" التي اجترحها، حلقتَها الأولى لسيرة عُمر، وذلك سنة 1941. بيد أنه نوَّهَ في المقدمة إلى أنَّ كتابه هذا ليس بسيرة لعمر بن الخطاب ولا سردٍ لأحداثها، وإنما هو "وصفٌ لَه ودراسة لأطواره ودلالةٌ على خصائص عظيمة واستفادةٌ من هذه الخَصائص لعِلم النفس وعلم الأخلاق وحَقائق الحياة".
يودُّ العقّاد إذن إدراج ملامح هذه السيرة ضمن التاريخ الكوني للإنسانية، والتدليل على إسهام عُمر، خلال سنوات حُكمه وقبلها، في بناء دولة الإسلام وفرض نموذجها في تسيير الشأن السياسي. لذلك، قسّم كتابَه إلى ثلاثةَ عشرَ فصلاً هدفت جميعها إلى النفاذ في أغوار هذا الرجل، باستعراض مظاهر "عبقريته وتميّزه ومفاتيح شخصيته وتأثيره في الدولة الإسلامية وعلاقاته بالنبي والصحابة وآل بيته". ومنها فصلٌ لافتٌ حول "عمر والحكومة العصرية"، حيث نفى العقّاد إمكانيةَ انتقاد عمرَ بمقاييس عصرنا، لأنه "تصرَّف كما ينبغي أن يَتَصرَّف في زمانه، ولا سبيلَ عليه لباحثٍ في نُظُم الحُكم ولا لباحث في معاني الأخلاق".
ومنها أيضا فصلٌ جمع فيه عناصر طريفة من حياة عمر اليومية في بيته مع زوجاته وأبنائه وإخوته، يكشف جوانب من تصرّفاته في "فضائه الخاص". وهي عناصرُ تكمّل الصورة الأسطورية للحاكم الشديد في الفضاء العام، وتُجلي محدّداتِ اختياراته في السياسة والدين والمجتمع.
حرّر صاحب "التفكير فريضة إسلامية" (1962) فصول "العبقرية" ليرد على أطروحات المستشرقين من أمثال المؤرخ الإنكليزي إدوارد جيبون (1737 - 1794) صاحب كتاب "الدولة الرومانية"، وألفرد باتلر (1850 - 1936)، وحتى المؤرخ جرجي زيدان (1861 - 1914)، ولا سيما في ما يتعلق بتهمة إحراق مكتبة الإسكندرية وضيق تفكيره وسلوكه نهج الزهد وقسوته على الولاة. ولذلك، لا تتوجّه الردود إلى عامة القرّاء بل إلى محترفي التاريخ، يناقش أطروحاتهم ويفكك مصادراتها.
ورغم جموح العقّاد في البرهنة ومتانة حُججه الجدلية، فإنّ أبحاثه تندرج ضمن التبرير والتضخيم الأسطوري الذي يصنع تاريخَ "الآباء المؤسّسين"، فقد جهد الكاتب المصري في تسويغ كلّ أعمال عمر، كما لو كانت الحلّ الأمثلَ، فتحوّلت "المحاسبة" التي وعَد بإجرائها إلى تشريعٍ لأفعاله واستكناهٍ لمراميها أو حتى اختلاقٍ لها. فكان أن صارت وقائع الحياة مجرّد بَرهنة منطقية حول أحداث التاريخ المثيرة للجدل، غايتها إما نفي التُّهَم جملة وتفصيلاً، أو فَهمها بمقاييس عصره، لا عصرنا الحديث، أو على الأقل التدليل على تناسُبها مع السياق العربي- الإسلامي الكلاسيكي وأبنيته القبليّة. ولا مبالغة في القول إنَّ هذا الكتاب، كغيره في سلسلة العبقريات، يَصلح أن يُقرأ ويدرسَ، لا باعتباره تاريخاً، وإنما نصّاً ينتمي إلى أدبيات الجدل المنطقي والاستدلال.
كما لا ننسى أنّ هذا الكتاب أراده صاحبُهُ بمثابة درسٍ في أخلاقيات السياسة، موجّهاً إلى دكتاتوريات عصره، هتلر في ألمانيا وموسوليني في إيطاليا وفرانكو في إسبانيا، فضلاً عن البايات والدايات الأتراك والأمراء العرب الذين استبدّوا بالحُكم، وإن كانوا تحت نير الاستعمار.
وهذا ما قاله صراحةً في المقدّمة: "وعُمر بعدُ رجلُ المناسبة الحاضرة في العصر الذي نحن فيه، لأنّه العصر الذي شاعت فيه عبادةُ القوة الطاغية، وزعم الهاتفون بدينها أنّ البأسَ والحقَّ نقيضان". فَفهمُ شخصية عمر، حسب منهج العقّاد، يؤدّي إلى هدم القوة الطاغية ويدلّل على إمكانية اجتماع الحقّ والبَأس ويسحب البساط من تحت الأحزاب والأيديولوجيات الكليانية.
وهكذا، وضع العقّاد نفسَه موضعَ النقد لسيرة عمر، وحاول محاسبة المواقف التي قيل إنها جارَت عن القصد، واستعاد انتقادات مُعارضيه من الأقدمين والمعاصرين. ولكنه وجد لكل موقفٍ مُنتقدٍ حجةً ناهضة لها، وإن أخطأها الصواب. بل إنه ذكر أنّه أحسَّ في هذا بأحرج الحرج أمام "أصعبِ مَن عرف من عظماء الرجال نقداً ومؤاخذة". وهذا شأن قارئ القرن الحادي والعشرين: يَستشعر نفسَ هذا الحرج، لأنَّ الكتابة عن الشخصيات الدينية ممّا يوقع لا محالة في التضخيم والأسْطرة ويحجب وجهات النظر النقدية، بل قد يؤدي إلى ردَّات فعلٍ، لعل آخرها ما صاغته الباحثة التونسية هالة الوردي، منذ شهور قليلة، في كتاب: "الخلفاء الملعونون" (2109، ألبان ميشال)، وفيه استعادت سيرةَ عمر مُضخِّمةً تناقضاتها ومعايبها الظاهرة لتشويه صورته.
ولئن نَجحت سلسلة "العبقريات" في ترميم "أنا" الأمة الإسلامية بُعيْد تفكّك خلافتها وتقطُّع أوصالها إبان الحقبة الاستعمارية، فلعلّها اليوم في حاجة إلى مراجعةٍ علمية متينة تكشف الأحداث من دون أحكام مسبقة، انبهارية أو إبهارية. وربما كان من أكبر العوائق المعرفية ولوجُ عالم الصحابة بمفهوم العبقرية لا بمفهوم التاريخانية.