في ما عدا ما يصل إلى الثقافة العربية عن أخبار حروبهم، يكاد الأفغان يكونون مجهولين رغم الروابط التاريخية والدينية بين الثقافتين. قد يفسّر البعض ذلك بما تعرّض له البلد من تدمير بعد الاجتياح السوفييتي في نهاية السبعينيات، ثم سيطرة الجماعات المتطرفة، وصولاً إلى التدمير الأميركي في بداية الألفية الجديدة. كل تلك المحن تبدو مثل طبقات ثقيلة تمحو صورة بلد كان يعجّ بالقصور والحدائق والمكتبات والجامعات وغير ذلك من شواهد الحياة.
غير أن عدم المعرفة العربية عن بلاد الأفغان، تمتدّ إلى ما هو أبعد من تلك المحن التي عاشتها البلاد، وهو ما نشعر به حين نقرأ كتاب "تتمة البيان في تاريخ الأفغان" والذي يبدو وكأن صاحبه، جمال الدين الحسيني، المعروف عربياً بـ جمال الدين الأفغاني (1838 - 1897)، قد تصدّى لمهمة التعريف ببلاد الأفغان في العالم العربي حيث استقرّ في سنوات منفاه، في مصر التي وصل إليها بضغط من الإنكليز على خلفية مقاومته لهم في بلاده. بالتالي، فإن هدف الكتاب ليس تعريفياً تثقيفياً فحسب، فهو جزء من المهمّة الأسمى التي نذر لها الأفغاني حياته: توحيد البلاد الإسلامية في حربها ضدّ المستعمر.
صدرت نصوص "تتمة البيان" مجزّأة في الصحف المصرية، ولم تُجمع بين دفتي كتاب إلا بعد رحيل مؤلفها وكان ذلك في 1901. وإذا كان العنوان يشير إلى حديث عن التاريخ، فإن العمل لا يحمل بنية الكتب التاريخية بحال، فهو لا يمّر بنا من خلال تاريخ أفغانستان عبر العصور، بل إنه يفسّر عدداً من النقاط من خلال سرد الوقائع التاريخية، بل إن جزءاً كبيراً منه يخلو تماماً من النزعة التاريخية في تأليفه، من ذلك حديثه عن خصائص الشعب الأفغاني الروحية والاجتماعية، فكان العمل أقرب إلى بورتريه حضاري، ومن ذلك قوله: "نشأت هذه الأمة على الجلادة والإقدام فكانت أمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي عليها" أو أن "الخُلُق الغالب في هذا الجنس (الأفغاني) هو التشوّق للانتقام، واقتحام المحاربات، والتهوّر في المخاصمات والمنازعات لأدنى الأسباب"، وهي صورة قد تبدو متشدّدة غير أن المؤلف يخدم بها ما يريد الوصول إليه فـ"هذه الأمة نشأت على الجلادة والإقدام فكانت أمة حربية لا تدين لسلطة الأجنبي عليها".
يقابل جمال الدين هذه الصورة التي يركّز فيها على قيم الصلابة والبأس، بصور أخرى مليئة بالتسامح، مثل قوله: "يكرمون الغرباء، وأبناء السبيل"، وفي موضع آخر يقول: "والأفغانيون لا يعارضون غيرهم في حقوقهم، ولا يتحاشون عن أن يروا شيعياً، أو غير مسلم، يقيم مراسم دينه، ولا يمنعون المستحقين منهم من نيل المراتب العالية في حكومتهم". لعلّنا ونحن نقرأ هذه السطور نسرّ: ما أبعد ذلك عن الصورة المرسومة اليوم للأفغان في أعين العالم.
ضمن هذه المشاهد التي يرسمها، وصفاً وسرداً (ولعله كان يمليها فهي أقرب إلى تداعيات الخاطر وإن أمسكها خيط ناظم)، نعثر على تأملات في الحياة أو في شؤون الحكم كقوله إن "أمراء الأفغان لا يجلسون على المنصات والكراسي، بل يفرشون مجالسهم بالأنماط والنمارق الفارسية، وليس لهم من الأبّهة والعظمة ما لغيرهم من الأمراء، ولا يستنكفون من تناول الطعام مع خدمهم والأصاغر من الناس"، فإذا فعلوا غير ذلك نفر منهم الناس، ما يضطرّ بعضهم لاستعمال الشوكة وهنا ينقطع الحاكم عن شعبه، فيشير جمال الدين إلى آفة يسمّيها بـ"كثرة الحجّاب والمنّاع" هي بالنسبة له "أساس الظلم في البلاد الشرقية"، إضافة إلى كثرة مزيّني البطش للحكام وذلك مما "يوجب تطاول أيدي الولاة على حقوق الرعايا"، أو قوله بأن طمع الأمراء في السلطنة كثيراً ما ساق بعضهم إلى البحث عن حتفه.
تصبح عملية التأريخ تفصيلية أكثر حين نصل إلى سنوات حكم الدوست محمد خان (منتصف القرن التاسع عشر)، والتي كان جمال الدين شاهداً عليها، على عكس الأحداث الأخرى التي حصّلها عن طريق السماع أو القراءة، بل إنه في آخر سنوات حكم الدوست محمد خان قد أصبح أحد رجال دولته وبالتالي يمكن القول إن هذا الجزء من الكتاب يمثل شهادة حية فنستفيد من ثراء المعلومات ومن تعمّق أكبر في شؤون السياسة فيستعرض لنا كواليس السفارات وأحاديث الأمراء والدسائس الدبلوماسية والعسكرية، ويتوسّع في الحديث عن صراع أبناء الدوست محمد خان على الحُكم، وكيف أن ذلك كان سبباً في تغلغل البريطانيين، فقد اضطرّ هذا الصراع المتورّطين فيه إلى جمع الدعم والتحالفات على حساب استقلاليتهم.
ضمن هذه الصورة العامة نقف عند ملمح خاص، وهو حديث جمال الدين عن احتفاء الأفغان بالعلم والمعرفة، فيذكر أن "للعلماء في تلك البلاد شأنا عظيما وسلطة تامة ونفوذ كلمة بين الأهالي، بحيث يخشاهم الكبراء والعظماء والأمراء حيث إن قلوب العوام في قبضتهم"، ويضيف: "ولهم أن يثيروا الشعب على أي أمير أو كبير متى شاءوا، والكثير منهم يستنكف
من ملاقاة الأمراء ويتنزه عن قبول هداياهم وإن كان يقبل هدايا غيرهم من الناس".
وهذا الحديث لا يسوقه عن الخاصة من العلماء فحسب، إذ يذكر أن "من أهل القرى والمدن من له شغفٌ عظيم بتعلم العلوم كالصرف والنحو، والمعاني والبيان، والفقه والأصول، والتفسير والحديث، والمنطق والفلسفة، والهيئة والهندسة والحساب، ويتعلم بعض منهم العلوم الطبية". وفي جزء آخر من هذا السياق، يذكر أن "العامة يتكفلون بأرزاق الطلبة مدة الطلب بطيب نفس".
مرة أخرى، نشعر بتناقض ذلك مع الصورة التي اصطنعها العالم عن أفغانستان منذ عقود. ولكن لعلّنا هنا نقف على درس (غالباً لم يخطر ببال الأفغاني وهو يكتب عمله) وهو أن البلاد التي يرُوج فيها العلم وينشغل به الناس ويحتفون بأهله ليست بمنأى عن التقهقر الحضاري في ظل إكراهات عديدة تمرّ بها الشعوب.
ولعلّ العبرة من كتاب "تتمّة البيان" لا تكمن في مقولته المنطوقة، فقد جعلها جمال الدين مقتصرة على سياق زمنه، وإنما تكمن في ما يُمكن أن نستفيده من قراءة في إمكانية انزلاق البلدان في متاهات قد لا تخرج منها إلا مدمّرة، كحال أفغانستان اليوم، على الرغم مما تتوفّر لها من أسباب القوة والعزة في وقت سابق، وحال كثير من البلاد العربية من ذلك غير بعيد.