نشأ الكتابُ، في الأصل، سلسلةَ مقالات قصيرة، ينشرها هذا الأديب اللبناني في جريدته: "الجامِعَة"، التي أسسها بعد هجرته من طرابلس إلى الإسكندرية، سنة 1897 فرارًا من قمع السلطنة العثمانية. ويدور موضوعُها حول حياة ابن رشد، فيلسوف قرطبة (ت. 1198) ونظرياته الحِكميَّة عن العقل والنقل، والاتصال بين الحكمة والشريعة، والحقيقة بوجهَيْها، وأقسام المتلقين لها من أهل الخطابة أو الجدل والبرهان.
سرعان ما أثارت تلك المقالات التنويرية حنقَ (أو غيْرة) صديقه رضا، صاحب "المَنار"، فانبرى ينتقدها، ثمَّ ما لبث أن أقحم الأستاذَ محمد عبده (ت. 1905) ليردَّ على أطروحات أنطون الجريئة، والذي ردَّ بدوره عليه بمقالاتٍ حجاجيَّة مُفصلة. فما هو مضمون أولى معارك القرن الماضي وما هي رهاناتها؟
صدر "ابن رشد وفلسفته"، سنة 1903، وهو يتضمن أربعة أقسام غير متكافئة الحَجم: مقدمة وعرضًا لحياة ابن رشد وأفكاره، ثم محاورة فلسفية بين فرح أنطون والمصلح محمد عبده، وخاتمة ذيَّل بها مجموع الفصول. وتحتل المحاورة أكثر من نصف الكتاب الذي لئن كان في ظاهره عرضًا تاريخيًّا وفلسفيا لعقلانية ابن رشد، فإنه، في عمقه، نداءٌ صريح لتبنِّي العلمانية في الشأن السياسي، بما هي إدارة لشؤون المواطنين، وليس الرعايا، بقطع النظر عن انتماءاتهم الدينية أو العرقية، وتطبيق لمبادئ الليبرالية الغربية في مجالَيْ: المجتمع والمعرفة. وهكذا اتخذ أنطون من ابن رشد نموذجًا، بل ذريعةَ، للتحرر الذهني، وانتقاد المُسَلَّمَات والاستقلالية إزاء ما يُعتبر حقائق دغمائية.
واستند، في تمشيه هذا، إلى فلاسفة الأنوار الفرنسيين، ولا سيما روسو وفولتير ومونتسكيو، ومن بعدهم ارنست رينان (1823-1892)، حتى يبني فكرًا نهضويا، يقرّب بين الديانات، ويحمي الوحدة القوميَّة، في ظلِّ نظام اشتراكيّ، عماداه الأكبران: العقلانية والعلمانية.
وقد عُدَّت هذه الدعوات التي ضَمَّنها كتابَه هذا، فضلا عن تلك التي زخرت بها مقالاته ومسرحياته ورواياته وترجماته، لدى الإصلاحية-السلفية، مساسًا بأولويته: الدين وقدسيته. فانتقلت الخصومة إلى البحث في سلطة الدين ضمن نسيج الحياة المعاصرة، وإلى تحرير المرأة وعوائقه، وآثار الديانات في تنظيم المجتمع، أو في اندلاع الحروب وهيمنة الاستبداد... وقد أفادت ثقافة صاحب "رسالة التوحيد" ومهارته في عرض الحجج فرح أنطون الذي أجاب عنها بإطنابٍ، إجابة الندِّ للند، يساعده اطلاعٌ واسع وقلمٌ سيال، يكافح للفَصل بين مجال العقائد، الذي هو ضمير الفرد، ومجال السياسة الذي هو المجتمع العربي.
ولا ريب أنَّ استدعاء ابن رشد لم يكن تاريخيًا ولا علميا، بل مجرد ذريعةٍ للمطالبة بتبني العلمانية نظاما سياسيا ومعرفيًا، فهي استعادة تبريرية تهدف إلى تشريع العقلنة الحداثية والاقتباس من الغرب، واتباع النهج الديمقراطي الاشتراكي في المجتمع العربي المتطلع حينها إلى كسر طوق الخلافة العثمانية.
استرجع فرح أنطون رمز التراث العقلي وأظهر سبْقَه الزمني وأهليته أن يكون مرجعًا للتحديث، لا يناقض في جوهره التنوير الغربي. ولا يختلف هذا الاستدعاء، بما هو شكلٌ من الماضوية، عن سلفية رشيد رضا، ولكن "لكلٍّ ماضيه ولكلٍّ سَلَفُه". ويكون بذلك أنطون، مع مواطنه جرجي زيدان، من أبرز من استخدم التراث الفلسفي العربي لتبيئة الحداثة الغربية.
تكشف هذه المعركة تعقّد المشهد الفكري العربي غداة تلاقيه بفلسفات الغرب وأنساقه الإيديولوجية. وفيها تواجهت الدعوة إلى العقلانية الإسلامية سبيلاً إلى التحديث، مع المطالبة بتبني العلمانية الغربية المادية، وارتَبَكَت بينهما "الحساسية المسيحية" التي أعياها التوفيق بين هاتين المرجعيتين المتضادتَيْن، فلجأت إلى قاسم مشترك، هو فلسفة ابن رشد، فأولتها ورَبَّعت دوائرها، لتكون حلا وسطًا يرضي طرفَيْ المعادلة (الإصلاحية السلفية والتحديثية العلمانية).
ومع ذلك، تظل هذه المعركة من أرقى معارك القرن: إن بشكلها التعبيري الناصع أو بمضمونها الفكري الثري، ونظام البرهنة فيها، وكذلك باستيعابها لأمهات القضايا الوجودية. وما تزال هذه الخصومة تذهل براهنيتها وبقدرتها على إثراء قضايا الساعة.