صباح الخير يا أبي

21 مايو 2015
+ الخط -
صباح الخير يا أبي. ما هذا الوجع الذي يتسلل إلى أرواحنا بأشكال مختلفة؟ لم أستوعب بعد أنني عجزتُ أن أصل إلى صوتك كالمعتاد، في ظل هذا التطوَّر التكنولوجي والسهولة بالتواصل بين البشر في أنحاء المعمورة (!) أشتاق كثيراً لسماع صوتك ومتلهف جدا لذلك. الحديث معك بالنسبة لي غذاء روحي يومي، أكرره ثلاث مرات يومياً، وأحيانا أكثر، ولكن، هذه المرة، عجزت أن أفعل. 
أبي الذي يعيش هناك في الضفة الأخرى المفصولة عن هذا العالم، بفعل أحقر وأجهل حركة على وجه التاريخ، انقطعتُ عنه منذُ فترة طويلة، وأول مرة يحدث هذا الانقطاع .. لا أدري، الآن، بماذا يفكر بالضبط، ولكنني متأكد أن انقطاعي عنه سيشغل حيّزاً كبيراً من تفكيره، لعلمي بعمق العلاقة الروحية بيننا، كأب وابن وكأصدقاء أيضاً. هذا الانقطاع غير المتوقع سيشغله كثيراً، بالإضافة إلى انقطاع راتبه، وانقطاع الكهرباء، وانقطاع الاتصالات وانقطاع المشتقات النفطية و"انقطاعات" أخرى كثيرة، تسببت فيها الحرب، وحوّلت حياتهم إلى جحيم.
آخر اتصال بيننا لم أكن أنا المتصل بل كان هو، جاء على غير العادة، أبلغني فيه عن سرقة أغراض كنت قد أرسلتها سابقاً، وأنوي فتح مشروع صغير، بالشراكة مع صديق آخر في عدن، إلا أن الظروف الأمنية أجلت الموضوع، أكثر من مرة، إلى أن تمت سرقتهن، أخيراً، بالكامل، وإجهاض الفكرة من أساسها، بعد أن تعرضت العمارة التي تستضيفهن للقصف، ما تسبب بدمار كبير فيها، ومن ثم تعرضت للنهب، ونُهب كل شيء بعد القصف مباشرةً. هذه الأغراض لا تساوي، في نظري، انقطاع صوت أبي عنّي ليوم واحد. الانقطاع الذي يؤرقني كثيراً، وأطرح السؤال على نفسي، بين كل لحظةٌ وأخرى، بماذا يفكر أبي الآن؟ هل مازال ينتظرني أن آتيه بالأخبار كالعادة؟
هو يعيش في قرية نائية من قرى الشعيب الضالع في عزلة عن العالم، بعد أن تسببت "الانقطاعات" في عزلهم عن محيطهم، وأصبحوا يعيشون في حالة مأساوية، وحصار لا قبل له به، وكان التلفون آخر وسليه تربطه بهذا العالم، بعد موجة "الانقطاعات" المسعورة التي حاصرتهم من كل حدب وصوب، وكنت أنا من يزوَّده يومياً بالأخبار عبره، وأنقل له ما يدور وما يُقال، ونتناقش بكل التفاصيل الخاصة والعامة، والأهم من هذا وذاك، أطمئن عليه وعلى جميع الأسرة يومياً.
انقطعت هذه الوسيلة، واكتملت حلقات الحصار، لأجد نفسي أمام ألماً جديد يفتكني. فلم يعد أبي يعلم شيئاً عن هذا العالم بأسره، ولا أنا أعلم شيئاً عن عالمه وعنه شخصياً .. انقطعت هذه الوسيلة وبدا لي وكأنه يعيش في كوكب المريخ، أو في كوكب آخر من هذا الكون، وليس على سطح الأرض، مثلنا يقدر أن يتواصل ويتواصل معه الآخرون. لا علم ليّ كيف هو الآن وبماذا يفكر؟ هل ما زال العشرة لتر ديزل بحوزته؟ نصف ما كان يحتفظ فيها احتياطاً من أجل شحن التلفون، كما حدثني من قبل، ها هي قد انقطعت الشبكة، وفشلت خطته لمواجهة هذه "الانقطاعات" اللعينة، وها هو قد أصبح معزولاً عن هذا العالم، لا علم له بما يحدث، وها أنا قد أصبحتُ بعيداً عنه جداً جداً، ولم أعد أسمع صوته.
جالس أفكر بعمق وحيرة لا يعلمها إلا أنا، أفكر بمأساتي البسيطة جداً، مقارنة بمآسي الآخرين ومصائبهم وفجائعهم، وهي أيضاً فجائع لنا جميعاً، لم يكن في الحسبان أن يحدث ما يحدث الآن، ولم يتوقع أكبر المتشائمين أن تصل الأمور إلى ما وصلت إليه من سوء. جالس أفكر بهذا الأمر، وقلبي يتقطع ألماً، كيف لي أن أواجه هذا الصباح، من دون أن أسمع صوت أبي؟ من دون أن أعرف بماذا يفكر؟ وماذا يريد؟
صباح الخير يا أبي. أتمنى أن تكون بخير كعادتك، وأتمنى أن تُنقل لك رسالتي هذه حتى ولو بعد حين.










12D3BBF3-FDDE-40B2-A2B8-56C2C92BD266
12D3BBF3-FDDE-40B2-A2B8-56C2C92BD266
مروان الجوبعي (اليمن)
مروان الجوبعي (اليمن)