كثيراً ما مارستُ تقريعاً لنفسي لأني أعرتُ كتاباً لصديقٍ ما، نسيت مَن هو، لحظة حاجتي لإعادة قراءته بعد سنوات على القراءة الأولى. حينها، أكابدُ ندَماً لا نفع منه، خاصة عند فشلي في العثور على نسخة بديلة في المكتبات، فأستذكر النصيحة المعروفة: "غبيّ مَن يُعيرُ كتاباً، والأغبى مَن يُعيده!" ـ ومع ذلك أنساها، وأكرر الإعارة لأجدد فعل الندامة، واقعاً في حَرَج الغباء!
أبدأ حديثاً عن كتب بالمئات نُشرت قبل أربعة وخمسة عقود، تتحلّى بأهمية استثنائية، ما عادت متوفرة عند الطلب. كتب قرأناها ذات محطة مبكرة من حياتنا، وكتب فاتنا اقتناء نسخة منها في الماضي، وها نحن اليوم بأمسّ الحاجة لمراجعة طروحاتها.. فنراجع أنفسنا بالتالي. كتب مفقودة تماماً؛ إذ أُقْفِلَت دور نشرها الأولى وبيعت مخزوناتها، كورق رطب قديم، بالوزن!
الكتب تمثيلُ من تمثيلات الذاكرة الثقافية بمفهومين؛ الوسيط الذي حملَ ونشرَ معارف شتّى شكلت إضافة في وقتها لإنسان ذاك الوقت. والحافظة، أيضاً، لتلك المعارف ضد النسيان. الكتب هي نحن في حالة تفكير. باختصار: الكتب إما شهادة لنا، أو علينا!
ما سبق ليس مجرد مقدمة لِمَتْن الحديث، بقدر ما هو جزء صميميّ منه، إذا ما واصلناه بالتساؤل عن معنى الحقوق، في ما يتعلّق بالكتاب بوصفه قيمة معرفية. أهي محصورة في كاتبه الذي رحلَ، مثلاً، ولم يكن ورثته على بيّنة من قيمته فأهملوه؟ أم في ناشره الأوّل الذي غابَ عن "السوق" مهنةً وشخصاً؟ ففي الحالتين نعاين الخسارة الفادحة للكتاب المُغَيَّب وأهمية كاتبه، ولمحتواه الضائع، ولقارئ مستقبليّ افتقدَ حلقة وصل حاضره الفكري بماضيه. كل هذا صحيح وبدهي. غير أنّ مسألة الحقوق المستدعية للتساؤل تكمن في منطقة أخرى، بعيداً عن قوانين الملكية الفكرية ومستتبعاتها، ومتقاطعة معها في آن. أعني تحديداً: الحق الطبيعي في الحصول على المعرفة. فإذا كانت متاحة وبمقدور المرء التشارك بها، فأمر حَسَن لأنه عادل. أما إنْ تحوّلَت إلى "سِلعة" مرتفعة الثمن ليس بمقدور طالبها حيازتها، بحسب "حقوق الملكية الفكرية"، فإنّ سؤال "الحق الطبيعي البدهي" ستتحرك الإجابة عنه خارج نطاق القوانين. تماماً كأيّ حالة عَيْش تخضع لمنطق الأواني المستطرقة الساري في الحياة.
والإجابة هي القرصنة. وإنها لقرصنة مشروعة، ونظيفة، وبريئة كونها تهدف إفساح المجال لحيازة معرفة ترتقي بالإنسان، أولاً وأخيراً. قرصنة الكتاب الورقي بتصويره لغاية شخصية، وقرصنته إلكترونياً من خلال مواقع تتيحه مَجَّاناً، وبسرعة ويُسْر غير مسبوقين.
إنّ تصريحاً كهذا، يصدر عن كاتب هو ناشر في الوقت نفسه، إنما يبدو غريباً غير مفهوم! ولا غرابة في الحقيقة؛ إذ ندرك جميعاً أنّ طموح كُتّابنا العرب يتمثّل في أن تُقرأ كتبهم على أوسع نطاق ـ فما بالك لمّا تتحوّل إلى "مَوادٍ تُسْرَق"! كما أنّ ناشراً موضوعياً يعي حقيقة موقع الكتاب في سلّم أولويات المواطن العربي/ رهينة كافة ضروب التجهيل والإفقار، والعقبات الجَمَّة أمام سلاسة توزيعه، لن يرى في عشرات النسخ المقرصنة سبباً لخسارة تُذكر في مشروعه لأنها، تلك العشرات، لن ترتفع بنسبة أرباح هي بحجم الكفّ والكَفاف.
ما دفعني للكتابة في هذا الشأن ما يلي: توافقنا، مجموعة كتّاب ومثقفين، على كتاب محدد ليكون مدار جلسة نقاشنا الدورية التالية. كتاب معروف، لمفكّر عربي علّامة. اكتشفتُ خلوّ مكتبتي منه ـ يبدو أنّ "حَرَج الإعارة" أفقدني نسختي! كما لم أعثر عليه في المكتبات. بحثت عنه عبر الإنترنت، خلال صديق، فأرسله لي مقرصناً، فعملت على طباعة نسخة منه لتتاح لي قراءته!
هل أنا، والحالة هذه، شريك في جريمة خرق قانون الملكية الفكرية وحقوقها؟
الملكية لفكر لم يُجْتَرَح أصلاً إلّا لينتشر بين الناس لزيادة وعيهم، وليس لتكديس أموال بذريعة القانون؟
نعم؛ أنا شريك.
(كاتب وروائي أردني)
أبدأ حديثاً عن كتب بالمئات نُشرت قبل أربعة وخمسة عقود، تتحلّى بأهمية استثنائية، ما عادت متوفرة عند الطلب. كتب قرأناها ذات محطة مبكرة من حياتنا، وكتب فاتنا اقتناء نسخة منها في الماضي، وها نحن اليوم بأمسّ الحاجة لمراجعة طروحاتها.. فنراجع أنفسنا بالتالي. كتب مفقودة تماماً؛ إذ أُقْفِلَت دور نشرها الأولى وبيعت مخزوناتها، كورق رطب قديم، بالوزن!
الكتب تمثيلُ من تمثيلات الذاكرة الثقافية بمفهومين؛ الوسيط الذي حملَ ونشرَ معارف شتّى شكلت إضافة في وقتها لإنسان ذاك الوقت. والحافظة، أيضاً، لتلك المعارف ضد النسيان. الكتب هي نحن في حالة تفكير. باختصار: الكتب إما شهادة لنا، أو علينا!
ما سبق ليس مجرد مقدمة لِمَتْن الحديث، بقدر ما هو جزء صميميّ منه، إذا ما واصلناه بالتساؤل عن معنى الحقوق، في ما يتعلّق بالكتاب بوصفه قيمة معرفية. أهي محصورة في كاتبه الذي رحلَ، مثلاً، ولم يكن ورثته على بيّنة من قيمته فأهملوه؟ أم في ناشره الأوّل الذي غابَ عن "السوق" مهنةً وشخصاً؟ ففي الحالتين نعاين الخسارة الفادحة للكتاب المُغَيَّب وأهمية كاتبه، ولمحتواه الضائع، ولقارئ مستقبليّ افتقدَ حلقة وصل حاضره الفكري بماضيه. كل هذا صحيح وبدهي. غير أنّ مسألة الحقوق المستدعية للتساؤل تكمن في منطقة أخرى، بعيداً عن قوانين الملكية الفكرية ومستتبعاتها، ومتقاطعة معها في آن. أعني تحديداً: الحق الطبيعي في الحصول على المعرفة. فإذا كانت متاحة وبمقدور المرء التشارك بها، فأمر حَسَن لأنه عادل. أما إنْ تحوّلَت إلى "سِلعة" مرتفعة الثمن ليس بمقدور طالبها حيازتها، بحسب "حقوق الملكية الفكرية"، فإنّ سؤال "الحق الطبيعي البدهي" ستتحرك الإجابة عنه خارج نطاق القوانين. تماماً كأيّ حالة عَيْش تخضع لمنطق الأواني المستطرقة الساري في الحياة.
والإجابة هي القرصنة. وإنها لقرصنة مشروعة، ونظيفة، وبريئة كونها تهدف إفساح المجال لحيازة معرفة ترتقي بالإنسان، أولاً وأخيراً. قرصنة الكتاب الورقي بتصويره لغاية شخصية، وقرصنته إلكترونياً من خلال مواقع تتيحه مَجَّاناً، وبسرعة ويُسْر غير مسبوقين.
إنّ تصريحاً كهذا، يصدر عن كاتب هو ناشر في الوقت نفسه، إنما يبدو غريباً غير مفهوم! ولا غرابة في الحقيقة؛ إذ ندرك جميعاً أنّ طموح كُتّابنا العرب يتمثّل في أن تُقرأ كتبهم على أوسع نطاق ـ فما بالك لمّا تتحوّل إلى "مَوادٍ تُسْرَق"! كما أنّ ناشراً موضوعياً يعي حقيقة موقع الكتاب في سلّم أولويات المواطن العربي/ رهينة كافة ضروب التجهيل والإفقار، والعقبات الجَمَّة أمام سلاسة توزيعه، لن يرى في عشرات النسخ المقرصنة سبباً لخسارة تُذكر في مشروعه لأنها، تلك العشرات، لن ترتفع بنسبة أرباح هي بحجم الكفّ والكَفاف.
ما دفعني للكتابة في هذا الشأن ما يلي: توافقنا، مجموعة كتّاب ومثقفين، على كتاب محدد ليكون مدار جلسة نقاشنا الدورية التالية. كتاب معروف، لمفكّر عربي علّامة. اكتشفتُ خلوّ مكتبتي منه ـ يبدو أنّ "حَرَج الإعارة" أفقدني نسختي! كما لم أعثر عليه في المكتبات. بحثت عنه عبر الإنترنت، خلال صديق، فأرسله لي مقرصناً، فعملت على طباعة نسخة منه لتتاح لي قراءته!
هل أنا، والحالة هذه، شريك في جريمة خرق قانون الملكية الفكرية وحقوقها؟
الملكية لفكر لم يُجْتَرَح أصلاً إلّا لينتشر بين الناس لزيادة وعيهم، وليس لتكديس أموال بذريعة القانون؟
نعم؛ أنا شريك.
(كاتب وروائي أردني)