شيّدتُ من القلق بيتاً لي

06 نوفمبر 2015
(بوسونيو، الأول من اليمين)
+ الخط -

["لقد شيّدتُ من القلق بيتاً لي"، هكذا يصف كارلوس بوسونيو تجربته الإبداعية، إذ تميزت تجربته الشعرية برؤيتها المعانقة للسؤال الأبدي القلق عن الأشياء وعن العالم، وبتأملها الميتافيزيقي للزمن وللإنسان على نحو يستحضر دوما الكتابة كاستبصار وكتجسيد لاعقلاني لهما من خلال اللغة المنفلتة والعصية:

"بعيداً عن هذه الوردة ومستحثاً حلمها
الموازي والمنعكس
ثمة عالم وإنسان
يتأمل مثلي من النافذة،
ومثلما في هذه الليلة المرصعة بنجمات في العمق
وبينما أحرك أنا يدي
شخصٌ ما يحرّك يده بنجمات في العمق
ويكتب كلماتي
بالمقلوب ويمحوها".

الشاعر والباحث الأكاديمي الإسباني، قيدوم أعضاء الأكاديمية الملكية للغة الإسبانية، الذي رحل نهاية الشهر الماضي عن 92 سنة، هو أحد أهم شعراء الجيل الشعري الأول لما بعد الحرب الأهلية الإسبانية مع خوسيه ييرو وخوسيه ماريا بالبيردي وأنطونيو غامونيدا وفيرناندو كينيونيس، وشعراء الجماعة الشعرية الخمسينية التي كان ينتمي إليها عدد كبير من أصدقائه الحميمين، مثل كل من فرانسيسكو برينيس وكلاوديو رودريغيث. هنا واحدة من قصائد بوسونيو التي تكشف تميّز تجربته].


استعارَةُ مُخَالَفَةِ الْقانون
(احتفال بعيد ميلادها)

أنْ تَكُونَ خَارِجَ ذَاتِكَ، سَفَرٌ مُدَوِّخٌ
وَبَعْدَهَا
تَأْتِي السَّكِينَةُ، أيُّهَا الْمُتَسَوِّلُ
لإدْرَاكِكَ، النَّاسِكُ
فِي فَلاةِ اللاحَرَكَةِ وَالْمُؤْمِنُ
فَقَطْ بِالشَّوْكِ وَبِالْحَجَرِ الْمُفْرِطِ،
بِلا ِبئْرٍ حَيْثُمَا الارْتِوَاءُ، وَبِلا طَعَامٍ، بِلا خُبْزٍ.
بَائِسٌ وَبِلا صَوَارٍ
مِثْلَ مَرْكَبٍ بُعَيْدَ الْعَاصِفَةِ،
لَكِنَّ عَاصِفَةً لا تُعَاشُ دُونَ جَلالِ
تِلْكَ التَّجْرِبَةِ الْقُصْوَى،
فِي بَحْرٍ هُوَ الآنَ رَتِيبٌ وَبِلا نِهَايَةٍ، أحَادِيُّ اللَّوْنِ،
بِمِيَاهٍ رَمَادِيَّةٍ،
أوْ لِنَقُلْ مُبْحِراً بِدُونِهَا فِي اللا لَوْنِ،
مُبْحِراً فِي اللامَاءِ مَعَ الْجَذْب فِي اللارَتَابَةِ الْأبَدِيَّةِ
أوْ وَسَطَ خَرَائِبَ بَعْدَ زِلْزَالٍ مُدَمِّرٍ،
لَكِنْ فِي مَكَانٍ مَا حَيْثُ لمْ يَكُنْ ثَمَّةَ بُيُوتٌ وَلَا شُيِّدَتْ آثارٌ،
لا الْأرْضُ تَصَدَّعَتْ وَلا كَانَتْ ثَمَّةَ شُقُوقٌ،
مَنْفِيّاً هُنَاكَ بِلا ذِكْرَى عَنِ الْبِلادِ الضَّائِعَةِ،
أخْرَسَ، دُونَ مَعْرِفَةٍ بِلُغَةٍ فُقِدَتْ،
قَدْ زَالَ كُلُّ لَمَعَانٍ، كُلُّ عَقِيدَةٍ وَكُلُّ شَكْوَى،
وَحِيداً لا مَحَالَةَ لَكِنْ دُونَمَا عُزْلَة،
إذْ لمْ يَكُنْ أيْضاً هُنَالِكَ ذَاكِرَةٌ لأيِّ رُفْقَةٍ سَابِقَةٍ،
هُنَالِكَ حَيْثُمَا لا يَسْتَطِيعُ الاسْتِرْجَاعُ أنْ يَبْلُغَ،
مَا دَامَ مِنْ أجْلِ ذَلِكَ قَدْ وَجَبَ الإفْصَاحُ الْقَبْلِيُّ،
هُنَالِكَ، هُنَالِكَ كُنْتَ تُدِيرُ ظَهْرَكَ لِوُجُودِكَ ذَاتِهِ،
دُونَ أنْ تَرَى، وَدُونَ أنْ تَرَى ذَاتَكَ،
وَإِنْ حَدَثَ أحْيَاناً عَكْسُ ذَلِكَ كُنْتَ تَشْرَعُ فِي تَأمُّلِ
رُكْبَتِكَ بِصَفَاءٍ أكْبَرَ
لِلْعَارِفِ رُبَّمَا وَبِالأسَاسِ بِظَرْفِهِ الْعَظْمِيِّ،
كَانَتْ تَعْبُرُ بِكَ فِي تِلْكَ الْهُنَيْهَةِ الْحَرِجَةِ لِتَشْغَلَ جُمَاعَ انْتِبَاهِكَ
فَتَنْمُو مَعَهَا ( وَتُدْرَكُ حِينَهَا كَمَا لَوْعَنْ قُرْبٍ)
رُكْبَتُكَ الْهَائِلَةُ وَقَدَمُكَ الرَّائِعَةُ، الْقَدَمُ الْعَظِيمَةُ
إذْ تَطَأ الْفَلَوَاتِ بِدَوِيٍّ وَبِضَوْضَاءٍ مِثْلَ دَوٍيِّ قَرْعِ الطُّبُولِ،
قَدَمُكَ الْعِمْلاقَةُ،
قَدَمُكَ الأسَاسِيَّةُ الَّتِي تَتَمَدَّدُ مُتَوَحِّدَةً وَمُسْتَقِلَّةً
حَتَّى الْمَكَان الَّذِي لا أحَدَ اسْتَطَاعَ بُلُوغَهُ،
وَخَلْفَهَا لَكِنْ وَحِيداً فِيمَا بَعْدُ
جَسَدُكَ كَامِلاً مِنْ مَادَّةٍ مُفْرِطَةٍ وَمِنْ جلبةٍ، هَيْكَلُكَ الْعَظْمِيُّ الْمُتَفَرِّدُ،
هَيْكَلُكَ الْعَظْمِيُّ الْمُرْعِبُ وَهُوَ يَتَقَدَّمُ بِخَطَوَاتٍ شَاسِعَةٍ
نَحْوَ لا أحَدَ وَنَحْوَ لا شَيْء.
وَبَعْدَئِذٍ
كُلُّ شَيْءٍ كَانَ يَشْرَعُ بَغْتَةً فِي التَّقَلُّصِ
ثُمَّ يَعُودُ شَيْئاً فَشَيْئاً إلَى بِدَايَتِهِ،
وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ جَسَدِكَ كَانَ يَبْدَأُ بِبُطْءٍ شَدِيدٍ
غَيْبُوبَتَهُ، أجَل،
أوَّلاً اللَّحْمُ وَالجِلْدُ اللَّذَانِ يَخْتَفِيَانِ ثُمَّ عُضْوُكَ الجِنْسِيُّ المُنْتَصِبُ
الْمُتَمَادِي فِي غَيِّهِ وَالْمُثِيرُ لِلضَّحِكِ،
الأظَافِرُ وَإنْ كَانَتْ تَسْتَمِرُّ فِي النُّمُوِّ بِلَامُبَالاةٍ،
مُنْتَبِهَةً فَقَطْ إلَى عَمَلِهَا فِي شَرَاهَةٍ غَرِيبَةٍ تَنْشُدُ الْمَزِيدَ،
الشُّعَيْرَاتُ وَاللِّحْيَةُ دُونَ أنْ تَعْبَآ بِحَجْمِ انْدِثَارِهِمَا بِشَكْلٍ مُقَتِّرٍ،
لَكِنَّ ذَاكَ ذَاتَهُ إذْ يَتِمُّ إخْضَاعُهُ مُبَاشَرَةً إلَى تَصَرُّفٍ جِدِّ غَرِيبٍ
كَانَ يَتَلاشَى وَيَأتِي التَّعْمِيمُ فِي مَوْعِدهِ الْمُحَدَّدِ ثُمَّ يَكُونُ الامْتِثَالُ الدَّقِيقُ،
وَتَشْرَعُ الْفَوْضَى إذَنْ، بِكُلِّ إحْكَامٍ وَدُونَمَا اسْتِثْنَاءٍ دُونَ أنْ تَتْرُكَ أدْنَى
هَبَاءٍ مِنْ غُبَارٍ عَلَى سَطْحِ قِطْعَةِ الأثَاثِ
الصّقِيلَةِ،
عَمَاءُ ألا تَكُونَ مَرْئِيّاً، فَضِيحَةُ التَّخَفِّي، وَفَضِيحَةُ اللّبْسِ،
هُنَالِكَ فِي الْمَعْكُوسِ مِنَ الْحَقِيقَةِ، فِي الْوَجْهِ الآخَرِ لِلْأكْذُوبَةِ،
فِي الْحُدُودِ الَّتِي لَمْ تُعَيَّنْ لتُرْسَمَ
ذَلِكَ الْمَكَانُ الَّذِي لَمْ يَتِمَّ تَحْدِيدُهُ حَيْثُ الْحَقِيقَةُ وَالْأُكْذُوبَةُ
يَبْدُوَانِ الْجَوَابَ ذَاتَهُ لِتَسَاؤُلٍ لمْ تَضَعْهُ أنْتَ،
أوَّاهُ أيُّهَا الْمُتَسَوِّلُ إدْرَاكَكَ، أيُّهَا الْمُسْتَقْصِي،
الْمُسْتَكْشِفُ الْمُدَقِّقُ،
أيُّهَا الْمُحْتَفِي بِالشُّؤْمِ.


ترجمة عن الإسبانية وتقديم: خالد الريسوني


اقرأ أيضاً: كارلوس بوسونيو.. موت لا مفرّ منه

المساهمون