شيخنا المتوكل.. أبعد من المراثي

07 نوفمبر 2014
تصوير: عبد الرحمن الغابري
+ الخط -

في المرة الأولى التي قابلتُ فيها الدكتور محمد عبد الملك المتوكل (1942 - 2014) وجهاً لوجه، كان يتهيّأ لإلقاء كلمته في حفل إشهار إحدى المنظمات الحقوقية عام 2007، حين وصفه رجُل المنصة بـ"تلميذ النعمان".

أثار ذلك استغراب كثيرين، فالأستاذ أحمد محمد نعمان، أو "فولتير اليمن" كما يسميه بعضهم، واحدٌ ممن ثاروا ضد الملكية، ولم يكن يتوقّع كثيرون - وعن جهلٍ -  أن يوجد رابطٌ موضوعيّ بين النعمان، أحد أهم السياسيين اليمنيين الذين ملؤوا السمع والبصر خلال عقود مضت ورائد "حركة الأحرار الدستوريين"، وبين محمد المتوكل، ابن الطبقة الأرستقراطية ونجل والي الإمام، والمنتسب إلى السلالة الهاشمية الحاكمة في شمال اليمن.

الملفت في هذه العلاقة، والتي اتضحت وأفصح عنها المتوكل في أكثر من مناسبة، أنها خرجت من سياق علاقة الطالب والأستاذ، لتشكّل هوية المتوكل لاحقاً، وليبلغ تأثره بشخصية النعمان حد تشابه أسلوبهما في الحديث، والذي كان يتميّز بعناصر ثابتة: ثقافة دينية وشعبية واسعة، وحس فكاهي، ومشاكسة، واستشهاد بالنصوص، وليبرالية تقليدية إن جاز التعبير؛ إذ يتشابه الاثنان في بناء آرائهما الليبرالية والمتحررة على نصوص دينية وشعبية تقليدية.

وقد تعزز هذا الانطباع بالنسبة لي، في الروح المرحة والساخرة، المتقبّلة للنقد، الودودة والمتخفّفة من الأحقاد، وذلك في تواصلنا الهاتفي الأول حيث شكرني على مقالٍ ساخرٍ هاجمتُه فيه، ومعه قيادات المعارضة‍‍‍. وصفته فيه بالإماميّ (نسبةً إلى النظام الملكي الإمامي قبل الثورة)، وأخبرني أن الرئيس صالح (كان ما يزال رئيساً حينها) وصفه هو الآخر بأنه "إمام بلا عمامة". ابتسمت وأنا أُكبرُ فيه صدرهُ الرحب، بينما أخبرني في ما يشبه نميمة الأصدقاء، بأن عبد الوهاب الآنسي أمين عام "حزب الإصلاح" قد انزعج كثيراً من وصفي له بالتاجر‍.

كانت طريقته في عقد الصداقات لذيذة، فيما روحه المرحة وغياب إحساسه بالفوارق العمرية والمعرفية والاعتبارية، تجعله صديقاً محبّباً للجميع؛ لذلك لم يكُن امتيازاً خاصاً لصحافي أو كاتب شاب، أن يتحدّث عن معرفته بشخصية محورية كمحمد المتوكل، لكن الشعور بهذا الامتياز، تشكّل في قلوب كلّ من عرفوه، لأنه كان محترفاً في كسر صورة السياسي المُمل المحنّط داخل ياقة خانقة، وخلق المشتركات العاطفية والموضوعية مع الآخرين.

ورغم شيخوخته، ومشاغله كأستاذ للعلوم السياسية في "جامعة صنعاء"، ومنصبه السياسي كأمينٍ عام مساعد لـ"حزب اتحاد القوى الشعبية"، وهو من الأحزاب الصغيرة نسبياً في اليمن، إلا أنه شكّل حضوراً خاصاً وبارزاً في الحياة السياسية اليمنية، سواءٌ من خلال الأدوار التي لعبها داخل تكتل أحزاب المعارضة "اللقاء المشترك"، أو من خلال حضوره الشخصي، الذي انعكس بدوره على الحزب الذي يشغل فيه دوراً قيادياً، ما أعطى زخماً وسطياً للسياسة اليمنية المليئة بالثنائيات المريرة.

ولعل حُسن تواصله، والميزات الشخصية التي عُرف بها المتوكل: انزعاجه من الطقوس الرسمية، تحلّله من جذوره الأرستقراطية، تواضعه وفكاهته، قد عزّزت هذا الحضور. فرغم توليه لمناصب رسمية، منها وزارة التموين والتجارة فترة حكم الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي (1974 - 1977)، ورغم منصبه السياسي والأكاديمي، إلا أنه كان يتحلّى بقدرٍ عالٍ من البساطة والبوهيمية، وارتبطت صورته الذهنية في وعي الآخرين ببنطال الجينز أو الكتان، والجاكيت والكوفية الفلسطينية.

لكنّ بساطة الرجل وتسامحه، كانا عاملين رئيسيين في تسهيل عملية الاغتيال، وربما تؤيد محاولة الاغتيال السابقة التي تعرّض لها في تشرين الثاني/ نوفمبر 2011 هذا الاحتمال، حين تعرّض لحادث مروريٍ مشبوهٍ، أثناء عودته من إحدى الندوات السياسية التي شارك فيها، في ما سُمي لاحقاً بحادثة "الدراجة السياسية"، حيث ارتطمت به دراجة نارية أثناء عودته إلى المنزل، وهو يسير في الشارع. قبلها، نبّهه كثيرون إلى ضرورة ألا يسير بمفرده كي لا يسهل استهدافه.

ورغم تداعيات الحادثة، فقد تنازل المتوكل عن حقّه القانوني، وتم الإفراج عن سائق الدراجة بطلب منه. لكنه عاد وصرّح لاحقاً بأن الحادثة هي محاولة اغتيال مدبّرة للقضاء عليه، ورد على من استنكروا عفوه عن المتهم بالقول إن سائق الدراجة لا ذنب له، لكن الفاعل الحقيقي هو من يقف خلف الستار. حينها لم يؤخذ كلامه كما يجب، فاستبعد الكثيرون احتمالات الاستهداف بحق سياسيّ "غانديّ" التوجّه، ولا يميل إلى العنف، كما لا يشكّل خطراً من النوع الذي يزعج مراكز القوى التقليدية في اليمن.

لكنّ ثلاثة أعوامٍ أخرى، جاءت بالحقيقة المُحزنة، لقد اغتيل المتوكل وهو سائر في الطريق العام، على بُعد أقلّ من نصف كيلومتر من منزله. اغتيل في شارعٍ ضيق ومزدحم على مرأى من الجميع، لتفقد اليمن مثقفاً ورمزاً سياسياً كان بحق رجُل الجميع، وصديق الجميع، وكاريزما مرِحة وصديقة قلّ نظيرها في حاضر اليمن الكئيب.

دلالات
المساهمون