من مساحات مترامية الأطراف في المغرب ظهرت أصوات غنائية شعريّة شفويّة وموسيقى تقليديّة التصقت بذوات المزارعين والقرويين لها "تاريخ مهمل ومسكوت عنه". سُمّي هذا الغناء بـ"العيطة" من (المناداة)، ويعود في أصوله إلى الأهازيج الشفوية المحلية التي أخذت بُعداً شعرياً وموسيقياً وأدائياً، يؤديه "الأشياخ" و"الشيخات" على حدّ سواء. يُطلق لقب الشيخة على المرأة المغنيّة، الراقصة وأحياناً العازفة المسؤولة عن صناعة الفرح في الاحتفالات.
وعلى وجه آخر؛ تُعرّف بأنّها المرأة الحُرّة بسبب الطلاق أو الترّمل أو الإهمال التي تتحمّل وحدها مسؤولية إعالة أطفالها، وتنحدر من وسط قرويّ شعبيّ، لكنّها في المدينة تتحوّل إلى ضحية غالباً.
في كتابه "غناء العيطة"، يستخلص الباحث المغربي حسن نجمي أنّ الشيخات شكّلنّ "مؤسسة اجتماعية" لها نظامها وعاداتها الفنيّة المحدّدة بالنظر إلى ارتباطهنّ ببنية المجتمع القروي، وأوّل الصور التي انعكست عن هذه "المؤسسة" هي صورة صوفيّة قدّمها باحثون قدامى وصفوا "الشيخات" بالوقار والتمتّع بسلطة مجتمعية قبل أن يتحوّل الغناء إلى حرفة يُرتزق منها.
استمدّت "مؤسسة" الشيخات قوة حضورها من الجماعة، تكون فيها "الشيخة" محلّ تكريم ونفوذ رمزي على مستوى القبيلة ومراكز السلطة، لأنّها المسؤولة عن صناعة الفرح في النفوس.
كان الجمال والصوت الجيد والمهارة في الأداء واحترام المهنة محدّدات أساسية لـ "الشيخة" الجيدة إلى جانب موهبتها في التواصل (حيث كانت الشيخات يدخلن إلى "فضاءات مَخزنية" وأرستقراطية حينها) أكسبتها خبرات اجتماعية إضافية أهّلتها لتكون "شيخة مخزنية"، تتماهى في لباسها مع رجال ونساء المخزن/القصر.
وتميّزت بعض الشيخات بحفظ قصائد الملحون والغرناطي و"البراويل" (الأغاني الشعبية) إلى جانب العيطة، ومنهن من جمعن بين الغناء الدنيوي والإنشاد الديني (الحضرة) ومن تخصّصن في أهازيج المآتم (العديد والزهيد والمزاوكي).
مقابل هذا التمجيد، نجد، كما يقول نجمي، أن "الشيخة تتلقّى من الجماعة نفسها ما يخدش صورتها، ويعبّر ذلك عن حالة الانفصام والتطهرية التي يعيشها المجتمع"، فاختفى دورها التثقيفيّ في تعليم الخياطة والطبخ وسط الحريم، وحُظر عليهنّ الغناء بمشاركة الأشياخ، فشكّلن جوقات نسائية سُمّيت بـ"اللّعابات" أو حسب المناطق الجغرافية أو القبلية مثل "العونيات، الزموريات، الشيظميات.."، وغنّين النصوص الطويلة والمركبة و"البراويل" أو الأغاني الشعبية.
حاول نجمي ردّ الاعتبار لمهنة الشيخات عندما وجد أنّ مشكلة العيطة تتجلّى في "النظرة الدينية المتحفظة تجاه ممارسة دنيوية متحرّرة، واصطدام أداء العيطة بسياق التغير الاجتماعي الذي فرضه الاستعمار وفرض على الشيخات أن يعشن حالة تتوزّع بين وظيفتهنّ الفنية والجمالية وكنساء يعشن ضغوطات الحياة".
تأزّمت صورة الشيخات بفعل النظرة الكولونيالية الضيّقة لمهنة الشيخات التي وسمها باحثون فرنسيون بمهنة البغي عندما عرّفوها بـ"محدّدات غير فنّية بل أخلاقية، معتبرين أداءهنّ أمام الرجال يحيل بالضرورة إلى كونهنّ مومسات، يجسّدن النموذج المتحرّر المنتهك للمحظور الديني الإسلامي السائد"، فتدهورت صورتهنّ بأسلوب "بنيويّ جارح" حسب الباحث عندما "أصرّ الباشا التهامي الكلاوي في مراكش على وضع البغايا والشيخات في مكان واحد، وهو ماخور نتج عنه امتدادات بائسة حتى اليوم".
فقد ترك "اصطدام البُنيات السوسيوثقافية التقليدية المغربية مع النموذج الأوروبي وقعاً على الذهنيات المغربية المحافظة، انفصلت فيها الشيخات عن الأشياخ في الغناء، وألغيت وظيفتها داخل الجماعة" وانحصر حضورها الفنيّ فقط في الغناء والرقص في تطوّر سلبي محى صورتها "الأسطورية" وجعلها مقيّدة بشروط العمل والأجر، وتهمّشت هي وفنّها في النهاية.
في الأداء الفنّي للعيطة تعرّضت الشيخة للاضطهاد أيضاً من خلال جسدها الحاضر في فضاء الرقص، عندما تمّ اختزاله في مناظر محدّدة من دون اعتبارات فنّية أو جمالية لأدائها الجسدي، بذلك ظلّ يُنظر للعيطة على أنها "ممارسة فنّية تقود إلى الخلاعة، خصوصاً عندما يمتزج الرقص بالشراب وتحضر هنا استيهامات الجنس"، وقد غُيّب فهم العلاقة الجوهرية بين الرقص والعيطة من جهة وعلاقة الشيخات بالمجتمع القروي وأعماله الزراعية التي تحاكيها الشيخة وتعبّر فيه عمّا تعيشه من تجارب حسّية يومية من جهة أخرى.
وما من شك أن هذا الجسد الحرّ الذي يرقص في فضاء مفتوح يتعرّض للمراقبة من النسق الثقافي والأخلاقي المحيط به، لذلك فهو "جسد سياسي وجسد قانوني، خارج عن المألوف والمقبول" حسب نجمي، رغم أنه جسد ليس عارياً، بل يرتدي لباساً خاصاً بالأداء ويتزيّن بحليّ محمّلة بالرموز والدلالات الخاصة، يقول نجمي في وصف حالة رقص "الشيخة": "تلبس الشيخة أثناء رقصها منديلاً مشدوداً على الفخذين ويتكامل مع "المضمّة" الحزام الذي يشدّ به عند الخصر. تشدّه الشيخة في لحظة تألّق... ولا ينبغي الاستخفاف بقيمة الحالة التي تشعر فيها الشيخة وهي ترقص أن جسدها لم يعد خارجياً، وإنما أصبح مستبطناً كما لو كان جسداً لا مرئياً ولا تراه إلا هي.. ثم يبدأ الانخطاف في الرقص كأنه شطح في فضاء الجذبة".
وقد غُيّب الصوت أيضاً.
العيطة في الأصل هي الصوت، وقد يكون الشعر الشفوي للعيطة ليس هو ما يحرّك المتلقي أثناء الأداء، كما يقول نجمي، بل "بحّة الصوت ورنّته"، ففي البحة تخرج صرخات الشيخات وآهاتهنّ وهنا "تتوقف الكلمات عن أداء وظيفتها الدلالية فتصبح مجرد رنين أو آهات مفصولة عن أجسادها، وليس الجميع مؤهل أن يستمع لهذه الأصوات وإيحاءاتها ما لم يكونوا مبرمجين بروح ثقافية معيّنة".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
سلطة الألقاب
اضطهدت "الشيخات" عبر إطلاق ألقاب معيبة عليهن، وإلى حدود السبعينيات كانت أسماؤهنّ ما زالت مشوّهة من قبيل الشيخة مديليكة، الشيخة الهاترة، الشيخة كريشة. وأطلقت هذه الألقاب "سلطة اجتماعية" قادرة على التحكّم بالاسم ونشره بآليات الإشاعة أو النكتة، ما يغيّب الشيخة الأصل ويجعلها مجهولة غير قادرة على الدفاع عن نفسها. كانت الألقاب مصحوبة بقيم جاهزة وبخسة، فالشيخة التونية في العامية المغربية هو داء القرع.