شيء من سيرة..

18 مارس 2015
+ الخط -
هناكَ مَوتَى لا يُمكنُ حتَّى للمَوتِ قتلَهُم فِينا!

هُم حين يموتون لا يُعاقبونَنَا بالموتِ معهم 

إنهم يعاقبوننا بالحياةِ دونَهم

ما حاجتنا للكتابة، ما حاجة الأموات إلى الرثاء فقد ماتوا، نحن نرثيهم لنوثق موتنا لا موتهم.

قبل أيام تفقدته، ألقيت على كلماته السلام ثم رحلت، كان يقول "وهي لا تكون مع شيء ولا يكون شيء معها اذا استوطنت القلب ملأته بالأشياء" وكانت تقول "يلزمني أكثر من ذلك"..
عندها أدرك أن الكلمَاتِ التي توهَّمْ أنَّ بمقدُورِهَا أنْ تصنع المعجزات، ليسَ بمقدُورهِا سِوى تسَوُّلِ كمِّيةٍ قليلةٍ من الأوكسِجينِ تلزمُه ليبقى على قيدِ الحَيَاة.

أكتب.. أكتب.. قُلْ لها أنّكَ كَبرتَ منذ الفراق دهرا وأنّكَ ما نسيتَ أن تصْحَبهَا معكَ إلى كلَّ لحظة من لحظات عُمرِكَ، وأنَّ كلَّ مُحاولةٍ للتَّخلُّصِ منهَا باءتْ بالفَشلِ، أكتب.. أنت تعرف أنها تريدك أنْ تتكلم، أن تتوقف عن الاتكاء على صمتك وترمم المتناثر فيك وتجيبها على سؤال، كيف أنت؟ كي تتخلص من وجع الغياب.. كيف أنت؟ تسْألني كيفَ أنتَ، حسنا، لقد نسيت روحك تتجول كل لحظة فيَّ هذا كل ألمي، كيفَ أنتَ؟ حسنا، ما زِلتُ أتنفَسُ كالأحياء!

كانَ عابراً صدفة بين توقيتين! فاكتشفَ ذات دفقة أنّها كانتْ تحفظُ مواعيدَ مروره، وتحسبُ بدقةٍ المسافةَ الفاصلة بين خُطوتين من خطواتِه، وقبل أن يضعَ قدمَه أرضاً قالتْ له: احذر أن تدوسَ قلبَك، دفنتُه في يدي، خبأته عن كلّ شيءٍ، وهو في مأمن إلا منك، كانت تتأرجحُ بين الخطوتين وتجيدُ السّيطرة على منافذِ الوقت، وكانَ يلزمه حروفاً جديدة، فالحروف من الألف إلى الياء لا تكفي لإتمامِ طقوسِ المدّ والجَزر!

كانت تقول.. حُبنا.. حين يكتمل سيكون روعة!

لماذا لم تنتظر نهايته إذاً؟! عَجِزت أن تكونَه، ورفضَ أن يكونها.. فكان انفصام!

منها تعلَّم الكثير.. تعلم أن البشرَ الذين يقومون أكثرَ من ثلثِ الليل لأنهم يؤمنون أن أجمل ما في الحياة الخلوة مع ربهم، يختلفون كثيراً عن أولئك الذين يصلون لأن الصلاة من شأنها أن تجعلَ الحياة أجمل، أو لأنها تبرر اقتراف الظلم على أنه اختيار إلهى للتخلص مما يقلقنا! وأنّ البشر الذين يهرعون إلى خالقهم في الصغيرة والكبيرة، لا يشبهون أولئك الذين يهرعون إلى خالقهم كخطوةٍ أخيرةٍ من الأخذِ بالأسباب!

منها تعلم الكثير، لكن الذكريات تحفل بالجروح التي لن تندمل.. بالكلمات التي ماتت قبل أن تولد، بحب جاء كالحمى، توجعه الذكريات ولكنه يحب أن يتذكر! جعلته الذكريات يكبر على عجل.. سيعيش وحده وسيمشي وحده، وسيموت وحده، قد كان يحمل حبه في قلبه وكأنه يحمل قنبلة موقوتة ضبطها مجنون فلا يعرف متى تنفجر وتطيح به! لكنه يكره أنصاف الحلول في كل شيء.. إما أن ينسى وإما أن يتذكر وكان جريئا أو ربما أحمقا وقرر أن يتذكر! وها هو يكتب من جديد.. مجبر على أن يكتب.. مجبر على أن يعيش.. مجبر على أن يموت.. وإلى تلك اللحظة يبتلع دموعه إلى حين يخلو بنفسه.. حتى ترتحل عنه الممرضة، بعد أن تضع شريانا في يده اليسرى مثقوبا بإبرةِ مصل.. وطعم الجرعةِ الأخيرة من دوائِه المرّ ما زال في حلقه.. وقلبه!

(مصر)

المساهمون