شوارع مصر... أسماء تتبدل فيسقط "سليم الأول"

15 فبراير 2018
في أحد شوارع القاهرة (محمد الشاهد/ فرانس برس)
+ الخط -
لطالما مثّلت أسماء الشوارع والأحياء والمناطق نقاط استدلال لسكانها ولقاصديها من غير أهلها. وفي مصر، صدر أخيراً قرار بتغيير اسم "شارع سليم الأول" في حيّ الزيتون في القاهرة، الأمر الذي أثار جدالاً

في مرّات كثيرة، اتّخذت الأنظمة السياسية المتعاقبة في مصر قرارات تقضي بتغيير أسماء بعض الشوارع بما يتوافق مع أهوائها وتوجّهاتها الجديدة، لكنّ الذاكرة الجمعية للمصريين لطالما أبت نسيان الاسم الأصلي للمكان.

عندما سيطر تنظيم "الضباط الأحرار" على الحكم في مصر بعد الانقلاب على الملك فاروق، عمدت الثورة إلى تغيير أسماء الشوارع التي كانت ترتبط بالأسرة الحاكمة، كـ"شارع فؤاد" مثلاً الذي صار "26 يوليو" وهو تاريخ تأميم قناة السويس. لكنّ المصريين ما زالوا حتى يومنا هذا يشيرون إليه باسمه الأصلي. إلى ذلك، عندما تولّى عبد اللطيف البغدادي عضو مجلس قيادة الثورة وزارة الشؤون البلدية والقروية، أعاد تخطيط القاهرة‏‏ فغيّر اسم "ميدان الإسماعيلية" (نسبة إلى الخديوي إسماعيل) إلى "ميدان التحرير"، وميدان وشارع "سليمان باشا" صارا ميدان وشارع "طلعت حرب‏".‏

اتّخذ مؤخراً محافظ العاصمة المصرية، عاطف عبد الحميد، قراراً بتغيير اسم "شارع سليم الأول" في منطقة الزيتون، بحجّة أنّه اسم "أوّل مستعمر لمصر" بحسب ما قال. والغريب أنّ القرار لم يشمل سوى "شارع سليم الأول" فقط، على الرغم من أنّ شوارع ومناطق أخرى في القاهرة مسمّاة تيمّناً بشخصيات استعمارية أخرى أذاقت المصريين الويلات، ومنها شخصيات من العصر المملوكي والعصر الفاطمي.

وقرار محافظ القاهرة بتغيير اسم شارع "سليم الأول" في الزيتون جاء بناءً على ما تقدّم به أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة حلوان الدكتور محمد صبرى الدالي، بأنّه "لا يصحّ إطلاق اسم أوّل مستعمر لمصر، الذي أفقدها استقلالها وحوّلها إلى مجرّد ولاية من ولايات الدولة العثمانية، إلى جانب قيامه بقتل آلاف المصريين خلال دفاعهم عنها وأعدم آخر سلطان مملوكي طومان باي، وحلّ الجيش المصري". بالتالي، قرّر المحافظ "إجراء حوار مجتمعي تحت رئاسة رئيس حيّ الزيتون مع أهالي الحيّ وأصحاب المحلات والمهتمين من المثقفين والمؤرخين لاختيار الاسم المناسب". جاء ذلك خلال اجتماع لجنة التسميات في المحافظة برئاسة المحافظ وحضور مدير مديرية الإسكان وممثلي وزارتي الداخلية الدفاع اللواء هاني شنيشن، وقد وافق محافظ القاهرة على إطلاق أسماء شهداء الوطن من أبناء القوات المسلحة والشرطة على عدد من المدارس والمحاور والشوارع الجديدة.

ميدان التحرير في القاهرة (محمد الشاهد/ فرانس برس)











يقول في هذا الإطار أستاذ التاريخ في جامعة القاهرة محمد عفيفي لـ"العربي الجديد" إنّه "من الواضح جداً أنّ القرار جاء بسبب الخلاف بين مصر وتركيا اليوم"، معبّراً عن تعجّبه من أنّ ثمّة شوارع أخرى سُمّيت بأسماء غزاة وأشهرها "قمبيز" الغازي الفارسي الذي غزا مصر في أواخر العصر الفرعوني، وما زالت محافظة على أسمائها. وطالب عفيفي بتغيير اسم "شارع قمبيز" مثلما تغيّر اسم "شارع سليم الأول".




من جهته، يطالب رئيس قسم التاريخ في كلية التربية في جامعة عين شمس وعضو لجنة التاريخ في المجلس الأعلى للثقافة، جمال شقرة، بـ"تشكيل لجنة تضم مؤرّخين من أساتذة فن وتراث شعبي إلى جانب أساتذة علم الجمال لوضع معايير وأسس اختيار أسماء الشوارع وتنقية الأسماء الموجودة بالفعل. وعلى أساس المعاير التي سوف توضع، يصار إلى تقييم الشخصيات التي تُطلَق أسماؤها على الشوارع حتى لا يترك الأمر لموظّف في الحيّ أو في المحافظة يكون ذا ثقافة محدودة".

ويوضح شقرة لـ"العربي الجديد" أنّه "من غير المعقول أن يكون شارع في مصر باسم سليم الأول وهو أحد أشهر الغزاة الذين غزوا مصر. فهو كان أوّل من رحّل العمال والحرفيين المهرة من مصر إلى إسطنبول، الأمر الذي أدّى إلى تفريغ البلاد من الصنّاع المهرة، بالإضافة إلى أنّه استنزف موارد مصر ليرسلها إلى عاصمة الدولة العثمانية، ولم يقم حتى بتنمية موارد البلاد". يضيف شقرة أنّه "من غير المعقول كذلك، أن يكون الشارع المسمّى باسم سليم الأول مجاوراً للشارع المسمّى باسم طومان باي الذي قاوم السلطان سليم الأول عند دخوله مصر، والذي يعدّه المصريون أحد الأبطال الذين دافعوا عن البلاد على الرغم من أنّه مملوكي". ويشير في الوقت نفسه إلى أنّ "ثمّة شخصيات من المماليك لا يجوز إطلاق أسمائها على الشوارع في مصر، نظراً إلى ما ارتكبته في حقّ الشعب المصري من ظلم وقهر وفرض للضرائب. وليس المماليك فقط، فثمّة أيضا شخصيات من الفاطميين مثل الحاكم بأمر الله الذي كان الخليفة الفاطمي السادس والذي حكم من مصر. ويشرح أنّ "الأخير مثلاً كان شخصاً مجنوناً وثمّة مسجد وشارع في القاهرة مسمّيان باسمه، وهذا لا يجوز. لكنّه في الوقت نفسه لا يجوز تجاهل أنّه هو من بنى الجامع. في هذه الحالة، من الممكن إطلاق أيّ اسم آخر عليه، مع التدوين أنّه هو من قام ببنائه وهكذا". ويلفت شقرة إلى "أسماء شوارع أخرى يجب تغييرها مثل اللورد كرومر واللورد اللنبي وهما من الشخصيات الاستعمارية البريطانية. كذلك ثمّة أسماء عِزب وقرى في الريف المصري غير لائقة مثل عزبة الأهبل".

في السياق، يذكر الكاتب عباس الطرابيلي مؤلف "شوارع لها تاريخ.. سياحة في عقل الأمة" في أحد فصول كتابه الذي يأتي تحت عنوان "غزاة في شوارع مصر"، أنّ "في مصر من الغرائب ما يحيّر العقل ولا يجد إجابة مقنعة، حيث يمجّد الشعب من أذلوه واستعمروه". ويوضح الطرابيلي أنّه "في منطقة الزيتون والحلمية نجد شارع السلطان سليم الأول، السلطان العثماني الذي غزا مصر وقضى على استقلالها عام 1517، بعد أن غزا الشام وهزم جيش مصر بالخيانة والخديعة في معركة مرج دابق شمال حلب عام 1516، ودخل مصر ليهزم آخر سلاطينها الوطنيين، طومان باي في معركة الريدانية عند العباسية، وأيضاً بالخيانة، ثم أمر بشنق البطل المصري طومان باي عند باب زويلة". ويسأل الطرابيلي: "ما الحكمة في ذلك، حاكم يقضي على دولة مصر المستقلة، فنكرمه ونسجل اسمه على واحد من أهم شوارعنا".

منطقة البورصة في القاهرة (محمد الشاهد/ فرانس برس)












يضيف الطرابيلي أنّه "رغم كراهيتنا التامة للاحتلال الإنكليزي لمصر، إلا أننا نجد مَن أطلق أسماء مَن حكم مصر باسم بريطانيا من ضباطهم مثل كيتشنر، الذي أطلقنا اسمه على أهم وأقدم مستشفى في حي شبرا، وهو مستشفى كيتشنر، وما زال الاسم يتردد حتى الآن، وكذلك أطلقنا نفس الاسم على واحد من أكبر المصارف الزراعية في وسط الدلتا، وما زال المصرف يحمل اسم كيتشنر".

إلى ذلك، يأسف المحقق التاريخي عبد العزيز جمال الدين الذي وضع كتاب "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" المشهور باسم "تاريخ الجبرتي"، لإطلاق أسماء لصوص وقتلة على بعض شوارع القاهرة مثل "شارع قرة ابن شريك"، ويقول إنّها "وصمة عار على جبين تاريخ مصر‏،‏ فقرة ابن شريك اشتهر بجمع الأموال من المصريين بتعسف شديد وإرسالها إلى خارج مصر وفي هذا استبداد واستنزاف لثروات المواطنين‏".‏ ويكتب كذلك أنّ "الخليفة المأمون الذي يحمل اسم شارع كبير في القاهرة، لا يستحق أيضاً هذا التكريم حيث اشتهر بقمع الثورة المصرية التي عُرفت بثورة البشمور أثناء حكم الدولة العباسية‏، والبشموريون هم ساكنو منطقة البراري بشمال الدلتا كفر الشيخ حالياً، وهم من الفلاحين والصيادين، ونظراً لوجود مستنقعات آنذاك فكان المكان مناسباً لظهور حركات التمرد، وجعلت مهمة القبض عليهم صعبة وقد ظهرت تلك التمردات من هؤلاء القلائل نتيجة لجمع الخراج والجزية وعدم انتفاع المصريين بها من قبل الخليفة المأمون وإرسالها خارج البلاد على الرغم من إسهام البشموريين في إسقاط الخلافة الأموية لصالح العباسيين الذين وعدوهم بعدم دفع الجزية، لكن سرعان ما انقلب الحال بعد استيلائهم على الحكم‏ (...)".

وكان وزير التنمية المحلية السابق اللواء عادل لبيب قد قرّر حصر أسماء الشوارع بجميع المحافظات، تمهيداً لرفع وإزالة أسماء الطغاة ومن أساؤوا إلى مصر وإحلالها بأسماء شهداء مصر. فأتى تعليق من أستاذ التاريخ المعاصر في جامعة حلوان الدكتور صالح الدسوقي يرى أنّ "القرار ينقصه الكثير من الأشياء، حيث يتوقف على تعريفه هو أو اللجنة لمعنى مصطلح الطغاة ما المقصود به"، موضحاً أنّ التعريف مهما كان، لن يتوافق عليه الجميع، إذ إنّ الطاغي بالنسبة إلى جهة قد يكون بطلاً لدى أخرى من وجهة نظرها، والعكس صحيح بحسب المنظور الذي نرى من خلاله الشخص.




وفي تصريحات صحافية، قال الدسوقي إنّه "من الناحية الأخرى أكاد أجزم أنّ جميع الشوارع التي سيتم تغييرها، لن تؤثر على مسمع المواطن أبداً، وسيتجاهل المسمّى الجديد لها مهما عظم شأنه، وسيظل الاسم القديم مهما كان سيئاً محفوراً في الأذهان ومتداولاً على الألسنة". وأخذ الدسوقي مثالاً "شارع فؤاد" الذي تغّير في ما بعد إلى "26 يوليو"، قائلاً إنّ اسم شارع فؤاد هو المنتشر والمتردد بين الناس حتى الآن، ولا يوجد من يقول الاسم الجديد. ومثال آخر هو "شارع نوال" في منطقة العجوزة الذي تغيّر ليصير اسمه "شارع الشهيد حسن الرزاز". على الرغم من تعليق لافتة بذلك وإزالة القديمة، فإنّ شخصاً واحداً لم يذكر الاسم الجديد وما زال اسم "نوال" مخلداً حتى في المواصلات.