مقطع الفيديو الذي انتشر كالنار في الهشيم، حمل شهادة تكشف تفاصيل دقيقة لم يعرفها الرأي العام من قبل، عن مجموعة من الحقائق العامة التي أصبحت ثابتة ومعروفة للجميع داخل وخارج مصر، ويتوالى اكتشاف الشواهد المؤكدة لها. هذه الحقائق التي أصبحت مكشوفة تبدأ من التوسع غير الطبيعي لاقتصاد الجيش المصري، الموازي لاقتصاد الدولة المدنية في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي، وتولي الهيئة الهندسية للقوات المسلحة بالاتفاق المباشر مهمة الإشراف والإدارة والمراجعة لمعظم المشاريع المعروفة وغير المعروفة الخاصة بالدولة، واعتمادها من الباطن على شركات مقاولات متفاوتة الحجم والطاقة بعد إجراء تحريات أمنية واستخبارية عليها من قبل جهات سيادية مختلفة، وتسبّبها في إغلاق عشرات الشركات نتيجة عدم صرف المستحقات في مواعيدها وتحديداً بعد اتخاذ قرار تعويم الجنيه في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016. ويضاف إلى ما سلف، لجوء الهيئة الهندسية للقوات المسلحة إلى إنشاء شركات جديدة برئاسة أو إشراف ضباط سابقين من الجيش والاستخبارات، وانتهاءً بإقامة الرئاسة والجيش بأجهزته المختلفة، التي تتمتع كل منها بميزانيات غير معلومة للرأي العام، مشاريع غير مدروسة تهدر فيها أموال الشعب والدولة من دون مبررات أو نتائج إيجابية متوقعة.
ولم يكن محمد علي من النوع الذي من السهل أن يخرج ليجاهر بمعارضته لسياسات السيسي والجيش، واتهام ضباط بعينهم، على رأسهم وزير النقل الحالي ورئيس الهيئة الهندسية السابق كامل الوزير، بـ"سرقته وعدم إعطائه حقه" أو بتحميل "الحاجة انتصار" زوجة السيسي، كما وصفها، مسؤولية إهدار 250 مليون جنيه لإنشاء استراحة جديدة للرئيس المصري في المعمورة بالقرب من قصر المنتزه وإدخال تعديلات لاحقة على الاستراحة التي أنشئت على عجالة لاستقبال رئيس الجمهورية في أحد الأعياد بقيمة 25 مليون جنيه، واتهام السيسي نفسه بالتلاعب في ملكية هذه الاستراحة والحصول على الأرض بصورة مشكوك في شرعيتها والتستر بأنها مملوكة للجيش.
المقاول الشاب البالغ من العمر 45 عاماً، يمكن اعتباره من رجال الأعمال الذين حظوا بالقرب من الدولة والجيش ونظام السيسي قبل ثورة 25 يناير/ كانون الثاني 2011 وبعدها. وبعد انقلاب يوليو/ تموز 2013 وتزايد ولع السيسي بإقامة المشاريع، بلغ حجم أعمال شركة "أملاك" ذروته، من المساهمة في نخبة من المشاريع التي يعطيها النظام أهمية كبيرة، وحتى إقامة الحفلات الكبرى، مثل حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، الذي قال محمد علي عنه إنه خسر فيه حوالي خمسة أو ستة ملايين جنيه، تحولت إلى ديون مؤجلة لصالحه.
وكان لمحمد علي قبل ترك مصر مشوار فني، فإلى جانب مساهمته الإنتاجية، لعب دور البطولة في فيلم "البر التاني" للمخرج علي إدريس، والذي نافس في المسابقة الرسمية لمهرجان القاهرة الدولي، وشارك في بطولة "طايع" الذي عرض في رمضان 2018 وحاز اهتماماً جماهيرياً ونقدياً. لكن وبشكل سريع، وعقب فشله في الحصول على أمواله التي خسرها وتعويض الفوائد المستحقة عليه بسبب توسعه في العمل مع الجيش في مشاريع فاشلة اقتصادياً، ترك المقاول الشاب مصر، وأعلن في إبريل/ نيسان 2019 إحياء شركته "أملاك العقارية للمقاولات" في برشلونة بإسبانيا، واشترى في موقع صحيفة "الأهرام" الحكومية مساحة إعلانية للدعاية لشركته التي تولد من جديد.
ويتبين من استعراض هذه الحقائق حول حجم العمل الذي كان يجمع الجيش بهذا المقاول وطبيعة حياته في مصر قبل رحيله عنها، أنه ينتمي لشريحة من رجال الأعمال الذين يصعب أن يضحوا بالمكاسب الاقتصادية إلا إذا كانت العلاقة التي تجمعهم بالدولة قد وصلت إلى نهاية طريق مسدود، وبلا أي آفاق، لحلحلة المشاكل العالقة بين الطرفين، أو حتى الحصول على جزء من الحق المتنازع عليه. هذا الواقع دفع محمد علي لاتخاذ القرار بفتح خزينة أسرار بهدف فضح ممارسات وتأليب الرأي العام على دائرة السيسي والجيش.
ألقت شهادة محمد علي الضوء على الطريقة التي تدار بها مشاريع السيسي الخاصة التي لا يسمع بها أحد، ولا تجرؤ آلته الإعلامية على وصفها بالتنموية، فها هي الهيئة الهندسية تطلب من مقاوليها ترك مشروع فندق "تريومف" في القاهرة الجديدة المملوك للاستخبارات الحربية لإنشاء استراحة جديدة للسيسي في المعمورة، بدلاً من القصور والاستراحات المقامة هناك من عهود سابقة، وذلك "لأن انتصار السيسي لا ترضى بأن تقيم مكان سوزان مبارك". وطلبت زوجة الرئيس إتمام المشروع الذي تبلغ قيمته 250 مليون جنيه، خلال شهر واحد، واستعجلت السيسي لإتمام الإنشاء، ثم طلبت تعديلات إضافية تتجاوز 25 مليون جنيه.
وأشار محمد علي إلى أن العقار الذي يمكن رؤيته بوضوح من منطقة المنتزه في الإسكندرية مقام على أرض ليس من المعروف كيف تم تخصيصها من الأساس، شأنها شأن العديد من الاستراحات التي قال إنه ساهم في إنشائها للسيسي في أماكن مختلفة. وعلى حدّ تعبيره، فإنه "لا يتصور كيف ومتى سيقيم السيسي فيها جميعاً"، وهو ما يطرح بشكل مباشر قضية ابتلاع الجيش لأراضي الدولة بلا حسيب ولا رقيب، والتي أثارتها "العربي الجديد" ووسائل إعلامية ومؤسسات بحثية عدة خلال السنوات الماضية. وكانت أحدث حلقاتها إصدار السيسي قراراً بتخصيص أربع قطع بمساحة إجمالية تتجاوز مليون فدان، على أجناب محور شرق القناة - شرم الشيخ، سيؤدي ترابطها والتوصيل بينها إلى حجز معظم مساحة الضفة الشرقية لخليج السويس لصالح الجيش لاستخدامها في أغراض مختلفة لم يوضحها القرار. وترجّح مصادر حكومية استغلالها في إنشاء مزارع ومصانع تابعة لجهاز الخدمة الوطنية وأجهزة أخرى بالجيش منفردة، من دون المشاركة مع مستثمرين محليين، استدلالاً بتصرف الجيش في الأراضي التي سبق أن خصصت له في جنوب سيناء، ومساحة 17 ألف فدان تقريباً بالمنطقة الشاطئية في جنوب الزعفرانة، وهي من المناطق التي تستقبل حالياً مشاريع تنمية سياحية، و46 ألف فدان تقريباً بالمنطقة الشاطئية بخليج جمشة ستكون مجاورة لمساحات أخرى خصصتها هيئة التنمية السياحية لمجموعة من المستثمرين للاستغلال السياحي، ومنطقة رأس بناس كاملة بمساحة 139 ألف فدان تقريباً، لصالح وزارة الدفاع على أن تعتبر "مناطق استراتيجية ذات أهمية عسكرية لا يجوز تملكها"، وجميعها مناطق على الساحل الشرقي لمصر.
كما روى المقاول المصري نموذجاً لجانب من الصراعات الداخلية بين قيادات الجيش على السلطة والإدارة في تلك المشاريع الجديدة، وهو الصراع بين الاستخبارات الحربية ممثلة في اللواء شريف صلاح، مدير فنادق الجهاز - الذي كان يرأسه السيسي، وذكر أنه كان صديقه المقرب - والهيئة الهندسية، على توجيه وإدارة مشروع إنشاء فندق "تريومف – الشويفات" بالقاهرة الجديدة بكلفة قدرها مليارا جنيه، في وقت تعاني فيه جميع فنادق القاهرة الجديدة من ضعف الإقبال وتراهن على تحقيق أرباح فقط من تأجير قاعات الأفراح بسبب ضعف حركة السياحة بصفة عامة في منطقة شرق القاهرة.
وألقى محمد علي الضوء أيضاً على قضية يمتنع الإعلام المصري عن إثارتها، وهي المشكلة الحقيقية بينه وبين الجيش، وهي عدم تعويضه عن الخسائر الفادحة التي لحقت به مع جميع المقاولين جراء تعويم الجنيه بعد قطع أشواط في المشاريع المسندة إليهم. وكان هذا المقاول قد اشترى أكثر من 50 في المائة من حاجيات العمل بالاستيراد من الخارج، واقترض من المصارف الأموال اللازمة للشراء والتشغيل بضمان العمل مع الجيش، وبعد التعويم رفضت الهيئة الهندسية صرف التعويضات إلا بعد صدور القانون المنظم لذلك وقرارات الحكومة التي صدرت متتابعة من يوليو/ تموز إلى ديسمبر/ كانون الأول 2017، ولكنها لم تعوض فعلياً الخسائر التي تكبدها.
وكان السيسي ومجلس النواب قد أصدرا القانون 84 لسنة 2017 بإنشاء لجنة عليا للتعويضات تختص بتحديد أسس وضوابط ونسب التعويضات عن قرارات التعويم وزيادة أسعار الطاقة، والتي ترتب عليها الإخلال بالتوازن المالي لعقود المقاولات والتوريدات والخدمات العامة السارية في الفترة من مارس/ آذار إلى ديسمبر/ كانون الأول 2016، والتي تكون الدولة أو أي من شركاتها أو الأشخاص ذوي الاعتبارية العامة طرفاً فيها. وبناء على ذلك، صدرت قرارات متتابعة من مجلس الوزراء بصرف التعويضات لجميع أنواع الأعمال بنسبٍ متفاوتة حسب نسبة تغير أسعار الواردات والصادرات، وسط اعتراضات واحتجاجات واسعة من المقاولين المتعاونين مع الهيئة الهندسية تحديداً، ما أدى آنذاك إلى تعطيل العمل بعدد كبير من المشاريع.
وأثارت شهادة محمد علي قضية أخرى لا تقل أهمية، وهي انعدام الرقابة والتنافسية في جميع العقود التي تبرمها الهيئة الهندسية، إذ تمّ إسناد أعمال "تريومف - الشويفات" إليه، بالأمر المباشر، وهو "أول خطوة للفساد" بحسب تعبيره. لاحقاً ساهم في مشروع المعمورة من دون أي أوراق تدل على الربط بين المشروعين، ثم تم تقييم أعمال المعمورة برقم أقل من قيمتها الحقيقية "ليفشل الجهاز المركزي للمحاسبات في اكتشاف أي تلاعب". والحقيقة أنه لا تمارس أي سلطة الرقابة الإدارية أو المالية على تصرفات الجيش وأجهزته، على الرغم من دخوله، نظرياً، ضمن الجهات الخاضعة لرقابة الجهاز المركزي للمحاسبات. وسبق أن نشرت "العربي الجديد" في 5 يناير/ كانون الثاني 2018 تفاصيل الصدام بين الجيش والمستشار هشام جنينة، الرئيس السابق للجهاز المركزي للمحاسبات، بسبب إقدامه على تفعيل هذا الدور الرقابي إزاء صندوق "تحيا مصر" الذي أنشأه السيسي في يونيو/ حزيران 2014 وأوكل مهمة الإشراف عليه لهيئة الشؤون المالية التابعة لوزير الدفاع، التي رفضت بشكل قاطع السماح لموظفي الجهاز المركزي بذلك إضافة إلى منعهم من الاطلاع على أي مستندات تخص مشاريع أجهزة الجيش.
وسمح قانون التعاقدات الحكومية الجديد 182 لسنة 2018، الذي أصدره السيسي، لجميع أجهزة الجيش والإنتاج الحربي والداخلية أيضاً، بإبرام عقود المقاولات والخدمات والاستيراد بطريقة المناقصة المحدودة أو المناقصة على مرحلتين أو الممارسة المحدودة أو الاتفاق المباشر من دون اتباع المناقصات أو المزايدات العامة. وصدر القانون تكريساً وتقنيناً لوضع غير دستوري قائم على التمييز الإيجابي لتلك الجهات على باقي الوزارات والشركات بدعوى "حماية الأمن القومي". إلى جانب ذلك، يفتح هذا القانون الباب أمام جميع الجهات الحكومية للتعاقد بالأمر المباشر في سبع حالات معظمها غير محدد، بل يعود تقديره للسلطة التقديرية للحكومة أو الجهاز الذي سينفذ التعاقد. ومن هذه الحالات على سبيل المثال: "إذا كانت الحالة تستهدف تعزيز السياسات الاجتماعية أو الاقتصادية التي تتبناها الدولة" و"الحالات الطارئة التي لا تتحمل اتباع إجراءات المناقصة أو الممارسة" و"عندما لا يكون هناك إلا مصدر واحد بقدرة فنية مطلوبة" و"عندما لا يكون هناك إلا مصدر واحد له الحق الحصري أو الاحتكاري لموضوع التعاقد".
ولأن الهوة بدت واسعة بين المعلومات التي ذكرها محمد علي، والواقع الذي يروج له السيسي وإعلامه، وما يردده في الخطابات من عبارات تزعم فقر الدولة وإدارة مواردها المحدودة بالضمير والأمانة (إحنا فقرا قوي... إحنا بنخاف ربنا قوي... إحنا ناس صادقين)، وتعمده إبراز محدودية دخل ضباط الجيش في العديد من المناسبات، فقد أثار ما كشفه المقاول حفيظة وغضب رواد التواصل الاجتماعي الذين تفاعلوا على نطاق واسع مع شهادته وأبدى معظمهم تخوفهم من بطش السلطة المصرية به بعد جهره بمعارضته وتفوهه ببعض الألفاظ المسيئة للسيسي وأعوانه.