شمولية الطعن

17 أكتوبر 2015
+ الخط -
خرج الشارع الفلسطيني عن صمته، وتحديداً في الضفة الغربية والقدس المحتلة. انتفض أو هبّ أو ثار، ليست التسميات المهمة هنا، قدر ما هي الحالة التي قام بها الشارع تعبيراً عن كفره بالخيارات الموازية، ونفاد صبره تجاه الممارسات الإسرائيلية المتواصلة والمتزايدة. حمل ما تيسّر له من وسائل هجوم ودفاع عن النفس، وتوجه إلى عدوه شاهراً سكيناً ومقلاعاً ليعلن أنه لا يزال على قيد الصراع مع محتله. طعن ورمى حجارة، وألقى قنابل مولوتوف في وجه العالم، ليعيد توجيه الأنظار إلى جرح مفتوح على النزف البطيء منذ عشرات السنين. 
الطعن المباشر اليوم هو في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وجنوده ومستوطنيه، باعتبارهم الفاعل الأساس والعدو الملموس على الأرض الفلسطينية المحتلة. فاعل لم يترك وسيلة تنكيل إلا واستخدمها لسلب الأرض من أصحابها، وتقتيلهم وتشريدهم. استيطان وتهويد وإغلاق أي أفق للحل السلمي وانتهاك للمقدسات، استفزازات متواصلة كان لا بد أن تنفجر يوماً، ولا بد أن الإسرائيلي كان في قرارة نفسه متوقعاً مثل هذا الانفجار، غير أنه كان معولاً على عناصر أخرى تؤخر غضب الشعب أو تكبته.
كثيرة هي هذه العناصر، لا يمكن إحصاؤها في مساحة قصيرة. لذا، يمكن الاكتفاء بالحديث عن أبرزها وأهمها؛ والتي تستحق أن تأخذ نصيبها من المواجهة، ولتكن الهبّة أشمل وأعم وأجدى. كثيرون هم في الداخل والخارج، قريبون وبعيدون، لهم مساهماتهم، المباشرة وغير المباشرة، بما آلت إليه الأوضاع الفلسطينية وخروج القضية من دائرة الأولوية العربية، وفي الاطمئنان الإسرائيلي إلى عدم خروج الأمور عن مسارها.
ربما الأقرب هو الفصائل الفلسطينية نفسها، وفي مقدمتها حركتا فتح وحماس، بعدما ساهم اختلافهما واقتتالهما، بغض النظر عن الأسباب والمسببين ومن البادئ ومع من الحق، في طعن القضية الفلسطينية في مقتل. ثماني سنوات على الانقسام السياسي، والذي قسّم الأرض وناسها، دفعت بالفلسطينيين إلى الدرك الأسفل من الاهتمام العربي، حتى قبل دخول الدول العربية في ثوراتها وما تلاها من أزمات. حتى بالنسبة إلى الفلسطينيين أنفسهم، لم تعد قضية الأرض هي الأساس. دخلت معطيات أخرى، خاصة بالحكم والسلطة إلى قاموس "النضال"، وتبدلت الأولويات، خصوصاً مع فشل كل محاولات رأب الصدع. اليوم هذه الهبة الفلسطينية الشاملة لا بد أن تكون طعنة في خاصرة هذا الانقسام، وثورة عليه أيضاً بعد كل الأضرار التي ألحقها بالقضية.
عنصر آخر لا يمكن إغفاله، هو الأجواء التي خلقتها السلطة الفلسطينية في سنواتها الأخيرة وخياراتها الثابتة غير المتبدلة، والتي جعلت الفلسطينيين أسرى العملية السلمية، بإخفاقاتها وعثراتها وطريقها المسدود، وخصوصاً مع خروج المسؤولين في المواسم بمشاريع سياسية تعمل على بيع الوهم، وتساهم في التنويم المغناطيسي للشارع، على اعتبار أن الحل آت لا محالة. الخروج الشعبي الأخير هو طعنة مستحقة لمثل هذه المشاريع والخيارات السياسية العدمية. طعنة لا بد أن تكون في مقتل حتى لا يعود الفلسطينيون إلى الدوامة نفسها مجدداً؛ وهو ما تعمل عليه السلطة اليوم، بالتعاون مع الولايات المتحدة وبعض الدول العربية.
هنا قد تكون الطعنة الثالثة، أي الدول الغربية والعربية، التي كان لها أيضاً دور في تطمين إسرائيل عبر إدخال الفلسطينيين في حالة من الشد والجذب الاقتصادي، وتقطير المساعدات وقطعها في بعض الأحيان، ما جعل المواطنين أسرى الفتات المعيشي المشروط بـ "الطاعة والمسالمة"؛ وهو ما لا تخفيه الولايات المتحدة خصوصاً، وتسره إلى حلفائها لمنع الدعم عن الفلسطينيين، وتشديد الخناق عليهم في الضفة وقطاع غزة. ما يحدث اليوم في الأراضي المحتلة هو طعنة أيضاً لهذه الاستراتيجية، والتي ربما أفلحت فترة من الوقت.
ليست الهبّة الفلسطينية مجرد طعن للاحتلال ومستوطنيه، بل لكل ما ومن ساهم في جعل القضية الفلسطينية مجرد عنوان بلا مضمون.
حسام كنفاني
حسام كنفاني
صحافي لبناني، يشغل حاليًا منصب مدير قطاع الإعلام في فضاءات ميديا، له منشورات في عدّة صحف لبنانية وعربية. يعمل في مجال الصحافة منذ أكثر من 25 عامًا، وهو من مؤسّسي موقع وصحيفة "العربي الجديد".