ويحتل شمعون بيريز حيزاً ومكانة خاصة في السياسة الإسرائيلية منذ بدأ خطواته الأولى في الحركة الصهيونية، مساعداً لبن غوريون في مقر قيادة عصابات الهاجناة في عام 1947 مروراً بتعينه مديراً عاماً لوزارة الأمن عام 1953 وحتى وصوله منصب رئيس الحكومة الإسرائيلية عام 1984. ويعد بيريز أكثر شخص في إسرائيل ساهم في بناء منظومة الأمن الإسرائيلية وتحديد مبادئ ضبابية "سياستها الذرية"، من دون أن يخدم يوماً واحداً في صفوف الجيش الإسرائيلي.
وخلافاً للوهم القائم، بفعل طول مدة نشاطه في السياسة الإسرائيلية منذ انتخب نائباً في الكنيست أول مرة عام 1959 وظل نائباً فيها إلى حين انتخابه رئيساً للدولة عام 2007، فإن بيريز لم يكن من جيل مؤسسي "إسرائيل"، بل كان من أبناء الجيل الثاني أسوة بموشيه ديان، ويغئال الون، وإسحاق رابين، مع فارق أنه كان مهاجراً إلى فلسطين، التي انتقل إليها عام 1934 آتياً من بولندا، بينما كان الثلاثة الآخرون من مواليدها، وهو ما منحهم الوصف الصهيوني الذي كان يطلق للمديح والإشادة بصاحبه، صبار. وهو وصف مسروق بطبيعة الحال من العربية ومن نبتة الصبار الفلسطينية، في محاولة للادعاء أن صاحبه له جذور تضرب في الأرض وليس مهاجراً.
وظلت هذه الحقيقة، إلى جانب عقدة عدم خدمته في جيش الاحتلال ومشاركته في حرب النكبة ولاحقاً في العدوان الثلاثي على مصر (على الرغم من أنه كان من مهندسي العدوان) ولا في حرب يونيو/حزيران 1967، عقدة تلازم بيريز طيلة مسيرته السياسة، لا سيما أنه ظل يشعر، وهكذا كان يعامل من النخب العسكرية الصاعدة (بما فيها رابين وديان وألون)، أنه ليس عضواً في الجماعة وفي نادي جنرالات الجيش (outsider). مع ذلك تمكن بيريز من فرض حضوره في السياسة وفي حزب العمل، بفعل رعاية ديفيد بن غوريون له، حتى أن بيريز انضم لبن غوريون عند انشقاقه أول مرة عن حزب العمل وأسس حزب رافي في أواسط الخمسينيات.
ومرة أخرى وخلافاً للوهم القائم، عربياً وعالمياً، فقد كان بيريز، وليس رابين، هو صاحب المواقف المتشددة في داخل حزب العمل. كان بيريز وهو الصقر، بينما كان رابين في واقع الحال صاحب المواقف "الحمائمية". وقد تكشف ذلك أول مرة عملياً في حكومة رابين الأولى عام 1974، بعد أن تغلب رابين على بيريز في أول منافسة بينهما وعين رئيساً للحكومة خلفاً لغولدا مئير، فيما عين رابين بيريز وزيراً للدفاع.
ففي ديسمبر/كانون الأول 1974، اندلعت أول أزمة أو مواجهة بين حكومة رابين وبين حركة غوش إيمونيم الاستيطانية، عندما قام نفر من مستوطني غوش إيمونيم بمحاولات إقامة أول مستوطنة في سبسطيا القريبة من نابلس تحت مسمى ألون موريه. وفيما سعى رابين لمحاولة طرد المستوطنين وإخراجهم، فقد قام بيريز بصفته وزيراً للأمن، بتقديم المساعدات اللوجستية لهم. ولاحقاً أسس أول تسوية معهم لنقلهم "مؤقتاً" إلى موقع قرب نابلس أطلق عليه معسكر كيدوميم الذي تطور لاحقاً لمستوطنة كيدوميم. وبعد ذلك بأشهر قليلة، كان بيريز كوزير دفاع يزرع أول شجرة في مستوطنة عوفرا شمال رام الله. وقد تكرر وقوف بيريز إلى جانب حركة الاستيطان والمستوطنين مرة أخرى بعد 29 عاماً، عندما كان وزيراً للخارجية في حكومة رابين الثانية، وغداة ارتكاب الإرهابي باروخ غولدشتاين مذبحة الحرم الإبراهيمي في الخليل.
أحبط بيريز في تلك الأيام محاولة رابين ونيته استغلال المذبحة لإخراج جميع المستوطنين الإسرائيليين من الخليل ونقلهم إلى مستوطنة كريات أربع. وكشف يوسي بيلين في حديثه للقناة الثانية، يوم الثلاثاء (13 سبتمبر/أيلول 2016)، أن بيريز كان أبلغه في أول مقابلة صحافية أجراها معه، عندما كان وزيراً للأمن في حكومة رابين، أن المستوطنين هم بمثابة عيون إسرائيل وجذورها التاريخية.
وفيما كان رابين يؤيد حل التسوية الإقليمية وفق مخطط يغئال ألون، الذي يعني تقاسم الضفة الغربية مع الأردن، فقد رفض بيريز هذا المخطط. في المقابل أيّد وروّج لمخطط التقاسم الوظيفي الذي وضعه موشيه ديان، وهدف إلى الإبقاء على السيادة الإسرائيلية على كافة أراضي الضفة الغربية المحتلة. وهي نفس الأسس التي عاد بيريز إلى محاولة تكريسها مرة أخرى عام 1987 في اتفاق لندن مع العاهل الأردني في ذلك الحين حسين بن طلال. وهو الاتفاق الذي لم يخرج إلى حيز التنفيذ بفعل رفض إسحاق شمير له في حكومة الوحدة المشتركة بين حزب العمل والليكود في تلك السنوات.
لكن بيريز أخذ شهرته العالمية، بعد اندلاع المنافسة الشديدة بينه وبين رابين، بالذات مع صعود الليكود للحكم أول مرة عام 1977. وقد استغل بيريز في تلك السنوات الدور الكبير الذي أدته منظمة الاشتراكية الدولية، في الحرب الباردة بين المعسكر السوفييتي والمعسكر الغربي، كأداة لضبط أحزاب اليسار الأوروبية، بما فيها الشيوعية، لضمان عدم تجند المنظمة الدولية ضد إسرائيل وسياسات الاحتلال في فترات حكم الليكود.
وخلال مشاركته في حكومة الوحدة الوطنية الأولى مع إسحاق شمير، بين 1984-1986، كان بيريز أكبر منظر لمقولة "الاحتلال النير" من جهة، والمحذر من الخطر الديمغرافي للترويج للخيار الأردني كما فهمه هو، مع وضع أول أسس ما يسميه رئيس الوزراء الإسرائيلي الحالي، بنيامين نتنياهو، بالسلام الاقتصادي. فقد سعى بيريز، وسط التنكر لحقوق الشعب الفلسطيني، إلى الترويج لشرق أوسط يقوم على استغلال المال العربي، بأيدي العقل الإسرائيلي لتحويل منطقة الشرق الأوسط إلى "جنة". وهو ما طوره لاحقاً في مقولة الشرق الأوسط الجديد مع تأسيس منظومات ومؤتمرات تحت مسمى "حوض المتوسط وشمال أفريقيا"، وتكريس هذا المصطلح في مواجهة مصطلح الوطن العربي والعالم العربي. وكان بيريز كثّف من حديثه عن التقاء العقل اليهودي مع المال العربي، بما يعكس في واقع الحال نظرته الاستعلائية الكولونيالية ضد العرب عموماً، مقابل اعتبار العرب بأنهم محظوظون لوقوع الثروات النفطية في أرضهم، وأن ثراءهم لا يمت لنتاج فكري أو علمي لهم.
يرتبط الوهم القائل إن بيريز، الذي كان المسؤول عن مذبحة قانا في لبنان عام 1996 خلال حملة عناقيد الغضب بعد اغتيال رابين عام 1995، هو "حمامة سلام" في كونه من قاد في إسرائيل الاتجاه لمفاوضات أوسلو ومن ثم اتفاق أوسلو مع منظمة التحرير، الذي كان يفترض فيه أن يكون اتفاقاً مرحلياً لخمس سنوات وأن يفضي إلى دولة فلسطينية. وقد اعتبر بيريز في لقاءات تلفزيونية متعددة أن اتفاق أوسلو كان انتصاراً استراتيجياً لإسرائيل، خصوصاً على ضوء موافقة منظمة التحرير الفلسطينية الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود، والأهم من ذلك أنه مكَّن إسرائيل من خلق وهم اقتراب الحل في الوقت الذي سرعت فيه حكومة رابين، ومرة أخرى بتأثير من بيريز من تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة. فقد ارتفع عدد المستوطنين من نحو 150 ألف مستوطن قبل الاتفاق إلى أكثر من 500 ألف شخص حالياً، عدا عن المستوطنين في القدس المحتلة ومحيطها.
مع فشل مفاوضات كامب ديفيد عام 2000، واندلاع الانتفاضة الثانية لاحقاً، أيد بيريز الذي كان حصل على جائزة نوبل للسلام سوية مع رابين والرئيس الفلسطيني، ياسر عرفات، بفعل توقيع اتفاق أوسلو، مواقف إيهود باراك كلياً وانقلب على الرئيس، ياسر عرفات، متهماً إياه أنه يؤيد الإرهاب ويشجعه ولا يريد السلام.
واستغل بيريز كونه حاصلاً على جائزة نوبل، وعلى الرغم من كونه في المعارضة خلال حكومات نتنياهو المختلفة، في الدفاع عن إسرائيل دائماً، حتى عند اندلاع انتفاضة البراق الأولى في عهد نتنياهو عام 1998. وعلى الرغم من دعاية الليكود واتهامه بيريز أنه سيعيد تقسيم القدس، إلا أن الأخير بذل باستمرار جهوداً دبلوماسية هائلة، خصوصاً لدى البيت الأبيض ودول الاتحاد الأوروبي لمنع إصدار قرارات دولية تدين إسرائيل أو تفرض عليها عقوبات اقتصادية.
وفي عام 2005 اجتاز بيريز خطوط المعسكرات في إسرائيل، تاركاً حزب العمل على أثر هزيمته النكراء لصالح عمير بيرتز في رئاسة الحزب، لينضم إلى الحزب الجديد الذي أيده أرئيل شارون، وتولى منصباً وزارياً في حكومة شارون ونائباً لرئيس الحكومة، إلى حين انتخابه رئيساً للدولة عام 2007 خلفاً لموشيه كتساف الذي كان تغلب عليه في الانتخابات على رئاسة الدولة، لكن تم عزله من منصبه بعد تقديم لائحة اتهام بشبهة ارتكاب جرائم الاغتصاب والتحرش الجنسي.
بعد انتخابه رئيساً للدولة، حظي شمعون بيريز، لأول مرة على امتداد سيرته السياسية والأمنية بإسرائيل، بارتفاع أسهمه في أوساط الجمهور الإسرائيلي وفقاً لاستطلاعات الرأي العامة، بعد أن كان يحظى دوماً بنسب تأييد متدنية في صفوف الأوساط الشعبية، لا سيما بفعل التحريض الدائم عليه في عهد حكومة الليكود الأولى وتشويه صورته العامة لحد ترويج لإشاعات أن والدته عربية، على الرغم من معرفة الجمهور الإسرائيلي أصوله البولندية.