شقراء مدحت ... و"غلاوته"

29 سبتمبر 2014
مجمع سكني ضخم أتى على أشجار مدحت
+ الخط -

لم يكن مدحت مجرد عامل في موقف سيارات عادي. مدحت كان صديق الجميع، رفيقهم. الشاب المصري الذي رمته الغربة في احضان بيروت طوى صفحة بكالوريوس التجارة. سلم شهادته الدراسية لوالدته كي تحتفظ بها ثم ودعها، وأتى تاركا وراءه عائلة تسترزق من عمله في لبنان. مدحت كان "حريف" في كرة القدم، إذ يكفي أن تتدحرج الكرة من صبية الحي باتجاه كرسييه الخشبي قرب الموقف حتى يداعبها برجليه. يتحول مدحت إلى مصدر بهجة للحي حين "يرقّص" الكرة. الشاب المصري أخبرني أنه كان لاعباً في شباب دمياط يوماً من الأيام.
غرفة مدحت على جانب الموقف كانت مرتبة للغاية. لدى الشاب المصري "لاب توب" ليتابع أخبار بلاده. أيد ثورة 25 يناير وبكى يوم احداث ماسبيرو الشهيرة. كان مدحت يعرف توقيت برنامج باسم يوسف فيصرخ من تحت شرفتي: يا باشا .."البلياتشو" وصل.
اعتبر أن لبنان لا يمكن أن يصبح يوماً دولة. كان يقول إنه مجموعة جزر من العشوائيات، على كل منها يمكث زعيم طائفي. "لبنان جميل من الله، وحش من عباده" .. هكذا وصف مدحت البلد الصغير.
انتصبت قريبة من موقف السيارات 18 شجرة. شذب مدحت معظمها. أطعم العصافير والحمام من بذور وخبز مبلل. كان يستغل يوم العطلة في كل احد من الاسبوع حتى يغسل سيارات المشتركين في الموقف. لمدحت كلمة سرّ إن أدركها أحدنا فهو سيدخل عالم مدحت. ستكون سيارته نظيفة وستُركن تحت الاشجار في عزّ الحر حتى لا تدركها اشعة الشمس المتوهجة. سيفحص مدحت إطاراتها وسيعتني بها بطريقة مميزة. كلمة سر مدحت التي يمنحها لمن يستحق بنظره كانت: "وغلاوتك". ويا بخت من كان له "غلاوة" مدحت.

سيارة حمراء وحيدة وصغيرة كانت أكثر من "غلاوة" عند مدحت. كانت سيارة فتاة تخرجت حديثاً من كلية إدارة الاعمال. توظفت الفتاة الشقراء في مصرف كبير. كان مدحت يقوم بتحريك سيارتها حتى مدخل الموقف صباحا، حتى لا تضطر الفتاة للسير مسافة كبيرة. في الشتاء كان مدحت يهرول تحت المطر ويقود السيارة حى مدخل بيت الفتاة. كان ذلك أكثر من غلاوة عند مدحت. الشاب الذي لا يرمي السلام على صاحبة السيارة الحمراء إلا وأرفقه ب"مئة فل"، لطالما فتح باب سيارتها قبل وصولها بقليل دامجاً لكنته المصرية ببعض "اللبننة": يسعد صباحك ومساكي بمئة فل ووردة.
كانت الفتاة تكتفي بالابتسامة لمدحت قبل أن تمضي في سبيلها. كان مدحت لا يكتفي بأن يلاحق بنظراته سيارة الفتاة حتى تتوارى في آخر الشارع. كان يجمد وقوفاً متابعاً بنظراته تلك الشقراء إلى حين أن تدخل بيتها. يطلق مدحت تنهيدة طويلة قبل أن يستانف عمله. لم يحدث أن تحدثت الشقراء مع مدحت. لم يحدث أن تخطى هو مرحلة التحية أبداً. لم يحدث أن أعطت بعضاُ من وقتها للسؤال عنه. لم يحدث أن فوت بحضورها ثانية واحدة من دون أن يشبع نظره منها.
دخلت صباح يوم من الأيام ’لة حفر ضخمة موقف السيارات. وقف شاب سوري يسلم المفاتيح لأصحابها. علمنا أن ثمة من اشترى أرض الموقف لبناء مجمع سكني ضخم. كسروا أشجار مدحت الـ18 كلّها. لا خبز مبلل على الأرض ولا بذور تغري سرب الحمام للعودة الى عالم مدحت. غرفة مدحت المرتبة، اهتزت تحت ضربات آلة ضخمة، تساقطت فوق صور علقها مدحت عن ثورة 25 يناير.
نزلت الفتاة الشقراء تسأل عن مفاتيح سيارتها . استلمت المفاتيح من الشاب السوري . مشت بضع خطوات ثم توقفت و تلفتت نحوه . سالت الشقراء الجميلة : " بس ..وين مدحت ؟؟ " . اجابها الشاب السوري ان مدحت في المطار . و اوضح ان صاحب الارض اعطاه تعويض مالي عن عمله كل تلك الفترة . كان الخبر ثقيلا على كل من يعرف " غلاوة " مدحت . لكن بالنسبة لها كان اكثر من ذلك . تلك الفتاة التي كانت تتعمد الصمت امامه بكت بشدة . دموع الفتاة لفراق شاب لم تجب يوما على تحيته الصباحية و المسائية كانت  مشبعة بالحسرة . هي التي لم ترى نظراته ، لم تسمع تنهيدته حين تتوارى عنه ، بكته كمن يبكي عالم مزروع بمئة فل وورد .
 ليتك يا مدحت انتظرت قليلا ..ليتك رأيتها ..لم يكن الامر كما ظننت و لم يكن ذاك الفرق بينك و بينها بكبير في تلك اللحظة . كنت اقرب الناس الى تلك الفتاة في تلك اللحظة ، كنت يا مدحت  اقرب اليها من المسافة التي تفصل الدموع عن الوجنتين .
المساهمون