شفاهة تدوّنها النيران

14 يناير 2015
مانا نيستاني / إيران
+ الخط -

في مصر، قد يتقبل المواطن العادي، البسيط، "المتديّن بطبعه"، بحسب تعريف السلطات المتعاقبة، "نكتة" موضوعها "المقدّس". يضحك المواطن، ويقهقه. ربما يتحسّب فجأة مستشعراً إتيانه بذنب، فيقطع ضحكته، للحظة، مستغفراً ربّه من بين الحشرجات المحتضرة لقهقهاته ويدعوك لعمل المثل. الشعور بالذنب لن يمنع المواطن الصالح من أن يُسرّ بالمزحة لأول صديق يقابله، سيضحكان من جديد، ويتطهران بالاستغفار.

لكن المزحة نفسها، لو كُتِبت أو رُسِمت، سيهبّ "المواطن المتدين بطبعه"، سيترك عمله ويهجر بيته، منتفضاً لنصرة ربّه أو نبيّه.. أو حتّى حاكمه. ما الذي يجعل "التجديف" مقبولاً في سياق الشفاهة، ومبرراً بديهياً لسفك الدماء، عندما يصير كتابةً أو رسماً؟

هل هو الإدراك اللاواعي لحقيقة "بقاء" المكتوب مقابل زوال الشفاهي؟ هل نحدس، بفطرتنا، أن "كل مكتوب إما يلغينا أو يحولنا أشباحاً"، بتعبير بورخيس؟ أم نردّد مع عبد الفتاح كيليطو وهو يستخلص من "ألف ليلة" مقولة تحفر عميقاً في ثقافتنا: الكتابة ندبة لا يمحوها سوى القتل؟

الذنب مغفور طالما لم يُطبع. الذنب خفيف وسهل التبخر طالما ذاب في الهواء، لكنه لا يغدو كذلك إن سجلته الأوراق، ففي هذه الحالة سيغضب الله. ليس غريباً أن تحمل مفردة "المكتوب" في ثقافتنا المعنى نفسه للمصير.

هل يلائم الشفاهي تواطؤنا؟ هل يتستّر على المسافة الهائلة بين ما نبطن وما نظهر، ما نعتقد وما نفعل، لذلك لا نطيق "توثيقه" من قبل مكتوب لن نملك أمامه سوى إدانة أنفسنا؟ في الشفاهي دائماً فرصة للتبرير، للنسيان بموت آخر الرواة، وللتحريف إن أردنا تغيير الغاية في منتصف الرحلة. كأننا، بالأحرى، نصادر المكتوب عقاباً له لأنه تجرأ على مصادرة شفاهتنا.

نملك بين ظهرانينا من يعتدون على صحيفة ساخرة، لكننا لا نملك صحيفة ساخرة. لم يسجل التاريخ قدرة أي مطبوعة عربية من هذا النوع على الاستمرار أو الصمود. يحدث ذلك فيما يُفترض أن تروّج سلعة كهذه بالذات، بين شعوب تملك سخريةً فائضة عن الحاجة، تُمثل سلاحَها الوحيد في وجه سلطات دأبت على قمعها وإفقارها والنيل من حرياتها. بضاعة رائجة "على الورق"، لكن.. من سيسمح بالورق؟

جميع محاولات تدوين السخرية ولدت كتجارب مبتسرة تحمل أسباب موتها. ألأنها أساءت للأنبياء والرسل؟ أم لأننا شعوب ثقيلة الظل وإن ادّعت العكس؟ لا هذا ولا ذاك، لكن لأنها حاولت "الإساءة" للمقدس الحقيقي في بلداننا: الحاكم.

يهبّ الحكّام فقط دفاعاً عن قداستهم، ويملكون مزية مصادرة المكتوب بمكتوب بديل، يقنن المصادرة أو المحاكمة أو القتل حتى. أما المقدسات الأسبق في التراتبية، فلها مُواطن يحميها: المواطن "المتدين بطبعه" والذي تعوزه فقط خطوات قليلة ليصير "إرهابياً بطبعه". فمن يملك بالكاد أوراق هوية لا يجيد حتى قراءتها، يعرف، شفاهةً، مصادرة أخرى، تكتبها النيران.


* روائي من مصر

دلالات
المساهمون