مرّة جديدة، قد لا تكون أخيرة، تتعالى الدعوات من مصر مطالبةً بمقاطعة الدراما التركية. ومرّة أخرى يتجدّد الجدل حول الدراما "الدخيلة" المدبلجة التي تضرب ساحتنا العربية بيد من "رومانسية"، كلّ عقد من الزمن، وتزلزل الخارطة التلفزيونية العربية، وأيضاً القاعدة الشعبية للمجتمعات العربية.
لا تعني الدعوات المتكرّرة من مصر بمقاطعة الدراما التركية شيئاً في حد ذاتها. أسبابها مناكفات بين السيسي وأردوغان، وهذا قابل للتغيير، عوضاً عن سذاجتها، لكنّها تحيلنا إلى سؤال آخر: كيف صمدت جماهيرية هذه الدراما في العالم العربي إلى اليوم؟
بعد 7 سنوات من اجتياحها بيوتنا، تستمرّ هذه الدراما في سلب عقول المشاهدين العرب، تحديداً المشاهدات الإناث، والمراهقات بشكل أكبر.
اللواتي أدمنّ تلك المسلسلات في مراهقتهنّ قبل 7 سنوات، صرن اليوم راشدات وربّات بيوت وأمّهات! حتى ليمكننا الحديث عن جيل "الدراما التركية". جيل يمضي ساعات متواصلة في القفز من حلقة إلى أخرى ومن مسلسل إلى آخر، تدور جميعها حول قصص حبٍّ جريئة واحياناً محرّمة في بيئة مسلمة ونكايات عائلية وصراعات على الإرث والنساء، جيل يؤسّس لمستقبل أقلّ ما يقال فيه إنّه "مريب".
في التسعينات عشنا "صرعة" الدراما المكسيكية، المدبلجة بأصوات لبنانية تتحدّث العربية الفصحى، والتي تبنّتها قنوات لبنانية أرضية مثل أل بي سي، في تسعينيات القرن الماضي، وصارت عرفاً عربياً فضائياً بعد سنوات قليلة، تناولت الموضوعات العاطفية نفسها التي تتناولها المسلسلات التركية، وكانت طويلة بأجزاء متتابعة أيضاً. ما لبثت أن تآكلها التكرار والخواء فانطفأت جذوتها.
ومن رماد طائر "الدوبلاج الفينيقي"، وُلد طائر جديد، سوري هذه المرّة، حين تبنّت طاقاتٌ سورية، بتمويل خليجي وسوري، دبلجة مسلسلات تركية. حينها، كانت الدراما التركية في ذروة نشاطها، وكانت تصدّر أعمالها للخارج، وهي اليوم تحتلّ المرتبة الثانية بعد الولايات المتّحدة الأميركية في تصدير الأعمال الدرامية، وتحقّق أرباحاً طائلة قدّرها وزير الاقتصاد التركي مؤخراً بمئتي مليون دولار سنوياً. وعوضاً عن إتقان صناعتها، كانت هناك مقوّمات أخرى تساعد في إنجاح الدراما التركية في عالمنا العربي، بينها التشابه الجغرافي والتقاطع التاريخي، وتقارب العادات الاجتماعية، تحديداً الإسلامية...
وقد بدا لاحقاً، لمَن أراد حشو أوقات البثّ الميت، تحديداً في فترة بعد الظهر، والفترات الصباحية المبكرة، أنّ الجمهور لا يريد فقط ما يشبهه بل ما هو محروم منه: العلاقات العاطفية المفتوحة في بيئة مسلمة، والحكايات السطحية التي لا تستدعي أيّ جهد ذهني.
واتّضح، كما في كلّ مرّة تنجح فيها مسلسلات مدبلجة في اكتساح مجتمع ما، تكون تلك إشارة كبيرة إلى أزمة قاعدة جماهيرية. حدث ذلك في روسيا في أواخر الثمانينيات، وفي لبنان في التسعينيات، وفي العالم العربي اليوم. نعم نحن مجتمع مأزوم، فتياتنا المراهقات يعشن فراغاً أكبر ممّا نقدّر، ربات البيوت يعشن اكتئاباً أكثر ممّا نظنّ، ويصدّقن حبكة من قبيل: انتحار شاب لأنّه أراد معاقبة فتاة أحبّها ولكنّها أحبّت غيره، فأنهى حياته بنفسه لتشعر هي بالذنب والألم!
وقد تحوّلت تلك المسلسلات من حشو الأوقات الميتة إلى أوقات الذروة في القنوات الفرعية، حتى أنّ شبكة أم بي سي خصّصت لها قناة بأكملها. كما باشرت بعض شركات الانتاج العربية انتاج أعمال درامية مشتركة مع قطاع الانتاج التركي. علماً أنّ ما يصلنا من الدراما التلفزيونية التركية ليس إلا جزءاً منها، هو الجزء الذي يختاره المنتج والمموّل، ويظنّ أنّ الجمهور يريده، علماً أنّ السينما التركية أثبتت كفاءة كبيرة على الساحة الدولية، موازنة بين اللعبة البصرية المشهدية والمضمون العميق. ما يحدونا إلى الاعتقاد بوجود مسلسلات تركية جيّدة، لا تجد طريقها إلى الدبلجة بسبب جودتها النوعية هذه.
الأزمة التي علينا مواجهتها، وليس مقاطعتها، هي أنّ النساء العربيات، اللواتي يتملكهنّ الشغف الدرامي التركي هذا، يتماهين مع شخصيات تركية نسائية غالباً ما تكون ضعيفة تثير الشفقة، مع يتيمات وفقيرات ومخدوعات... وفي حريم السلطان هنّ في أحسن أحوالهن محظيّات، وإن وضعن تيجان السلطانات يبقين "حريماً" لرجل يملكهنّ. وفي أجساد هؤلاء المشاهدات انتشرت حمّى "نجوم" المسلسلات، فصاروا فرسان أحلامهن، وهنّ حاولن التماهي مع النجمات التركيات وتقليدهن، ليكنّ لائقات وجديرات، في استيهامهن، بشركاء النجمات من أمثال مهنّد وعمر وغيرهما.
أوقات الفراغ التي تحشوها المشاهِدةُ العربية بالمسلسلات التركية، لا تنفكّ تتّسع، وكما يدمّر الإدمان صاحبه، تدمّر تلك الحبكات الدرامية السطحية ذكاء وخيال وطموحات مشاهديها. لا تهدّد هذه الظاهرة التركية الدراما العربية، ولا تسيء الدبلجة السورية إلى انتشار اللهجة المصرية، الأزمةُ في مكان آخر: في مجتمع يهرب إلى الوراء، حتى وصل إلى دهاليز قصور السلاطين العثمانيين وأقفاص الحريم، ولا يعرف إلى أين يتابع هروبه!