المرة الأخيرة التي عاش فيها اللبنانيون أجواء الانتخابات البرلمانية كانت عام 2009. لكنّها تعود يوم الأحد المقبل بشعارات مستهلكة وأخرى مستحدثة، تكشف طبيعة الانقسام في البلاد
نهاية الأسبوع قبل الماضي، شهدت أجواء عاصفة وممطرة في لبنان، مخالفة للطقس الربيعي الذي استمر فترة جيدة قبلها. الخاسرُ الأكبر من هذا الطقس كان المرشحين الذين تمزقت لافتات حملاتهم الرسمية والشعبية، التي ملأت الأبنية والشوارع وعواميد الإنارة والكهرباء وامتدت إلى الجدران والأشجار حتى، في الشهرين الأخيرين. مع ذلك، تعود لافتات جديدة إلى الشوارع وصور إضافية إلى الجدران بعضها يلصق فوق صور منافسين، فالانتخابات تقترب والمعارك على الحاصل الانتخابي بين اللوائح محتدمة، خصوصاً في العاصمة بيروت.
كلّ ما تحتاج إلى معرفته عن انتخابات لبنان 2018 انقر هنا
ومع هذا الاحتدام شعارات تذهب بالدعاية الانتخابية إلى حدود غريبة أحياناً، فيصبح المرشحون أبطالاً، مخلّصين، مقدسين، نظيفي الكف والجبهة، مع أنّ معظمهم من أهل السلطة التي راكمت ديوناً بعشرات مليارات الدولارات على الدولة، ومن أهل السلطة نفسها التي يتغلغل الفساد في وزاراتها وإداراتها ومؤسساتها، ما يجعل لبنان في أسفل قوائم الشفافية العالمية.
فضفاضة
بالحديث عن الاقتصاد، يبرز كثير من الشعارات التي تعد بـ"النمو وفرص العمل"، واللافت أنّ بعض أصحاب هذه الوعود هم من الهيئات الاقتصادية التي تقف دائماً في وجه أيّ تصحيح للأجور، فكأنّ النمو وفرص العمل اللذين تتحدث عنهما تابعان لمنظومة الاستعباد التي لا تمنح العمال ما يؤمن معيشتهم الكريمة. لكنّ الوعود الخيالية في القضايا الاجتماعية خصوصاً كثيرة، منها ما يقدمه أحد مرشحي بيروت دفعة واحدة في شعاره: "وعودهم برنامجنا: وظائف، سكن، استشفاء، تعليم". كذلك، فإنّ حملة أحد الأحزاب تراجعت عن شعارات واسعة جداً من قبيل "هناك حاجة إلى دولة لا مزرعة" إلى شعارات واقعية من قبيل "هناك حاجة إلى حلّ لازدحام السير". هذه الشعارات الواقعية أقرب إلى حملات مرشحي المجتمع المدني الذين تشغلهم القضايا البيئية والمعيشية أكثر من غيرهم.
عن مثل هذه الشعارات الفضفاضة، تقول أستاذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية، الدكتورة رولا أبو شقرا، لـ"العربي الجديد": "المشكلة ليست في الشعار نفسه. المشكلة في غياب الحاجة إلى برنامج انتخابي يجري الترشح على أساسه. فالترشح عندنا وبسبب الصيغة السياسية لنظامنا هو من طبيعة طائفية، فكلّ همّ المرشح هو أن يكون في اللائحة القوية لطائفته فهذا يعفيه مغبة التفكير في برنامج انتخابي حتى ولو كان الأمر شكلياً. والشعار الانتخابي لا يأتي من فراغ فهو يفترض أن يقدم روح البرنامج الانتخابي والسياسي، فإذا غاب البرنامج جاء الشعار بشكله ومضمونه تعبيراً عن هذا الغياب، إذ يلجأ المرشحون الى اختيار صيغ جميلة وفضفاضة، كما تصفها، مدروسة أحياناً ومتسرعة في أحيان أخرى لتكون الإضافة اليتيمة على الصورة الشخصية والاسم الثلاثي والمقعد الطائفي والمنطقة التي يترشح عنها. وإذا ميزنا بصورة عامة بين لوائح ما يسمى قوى السلطة ولوائح أخرى من المجتمع المدني أو القوى التقليدية الطائفية من خارج السلطة نجد من جهة شعارات تطالب بالوفاء ومن جهة أخرى شعارات تعد بالتغيير".
شهداء
الوفاء الذي تتحدث عنه أبو شقرا، يأتي في شكل تذكير بـ"الشهداء" في كثير في الحملات، فلكلّ فريق في السلطة "شهداؤه" الذين يتوجب أن تشهد دماؤهم على أصوات الناخبين وتطلب "الولاء بالدم" منهم. حزب الله يركز أكثر على مقاتليه الذين سقطوا في المعارك المختلفة، وتذكّر الشعارات المؤيدة له بهذه التضحيات: "أخي العزيز... اترك المصلحة الخاصة جانباً واقترع لمن حمى الأرض والعرض". وتيار المستقبل يستحضر صورة رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري إلى جانب صور نجله الرئيس سعد الحريري، بل يكتفي المرشح زاهر عيدو بعرض صورة والده (النائب الراحل وليد عيدو اغتيل عام 2007) في خلفية صورته من دون أيّ شعار. كذلك، هناك لافتة مكررة لعيدو وللمرشح المنافس في بيروت سعد الدين خالد تقول: "اللي (الذي) خلّف (أنجب) ما مات" في إشارة لدى الأخير أيضاً إلى والده الراحل مفتي الجمهورية اللبنانية حسن خالد الذي اغتيل عام 1989 والذي يظهر في بعض صور المرشح. فهل في هذا استغلال لدماء "الشهداء" انتخابياً؟
تجيب أبو شقرا: "بعيداً من الأحكام السلبية أو الإيجابية حول ما تسميه الاستغلال، فدماء الشهيد تجعل من يرثه في السياسة حاملاً بالقوة نقطةَ قوة انتخابية، والجمهور مهيأ للاستمالة عاطفياً عبر هذه الطريقة. لكن، من الاجتزاء فهم هذه المسألة في الساحة الانتخابية، بل ينبغي عزلها عنها أولاً لنفهم موقعها في بنيتنا السياسية عامة: لماذا تتحول دماء الشهداء إلى نقطة قوة يتميز بها المرشح عن غيره من منافسيه؟ أولاً، لدينا مسألة الإرث السياسي للشهداء وللزعامات والشواهد كثيرة في تاريخ لبنان الحديث، إذ إنّ استشهاد الزعيم يقابله تفويض فوري من جمهور الشهيد لمن يرثه. وتتكرس الزعامات أكثر بتقديم شهداء من بيوتها فتنال منعة تصل إلى حد التقديس من جهة، كما تصبح الزعامات أكثر شعبوية إذ يساويها الموت بالعامة من الناس. القضية إذاً، ليست استغلالاً انتخابياً إرادوياً من المنظار السوسيولوجي، بل تمثل نمط الممارسة السياسية لدينا، فإذا كان الزعيم يتكرس بموت أب أو ابن أو أخ أو زوج من دون انتخاب، فبديهي أن تأتي الانتخابات بشعاراتها وممارساتها ونتائجها لتكرس المكرس".
عنف
من الأنماط أيضاً ما يتباهى بالقوة والقدرة على ضرب الخصوم، من قبيل "ثابتون اليوم وغداً"، و"المجد تاج الأقوياء"، و"المؤمن القوي خير من المؤمن الضعيف". ويصل الأمر إلى التهديد بالعنف حتى: "ورب العباد إشارة منك بنحرق البلاد" أو استخدام أحد الأحزاب مسدساً في حملته الانتخابية تحت شعار "صوتك سلاح شرعي". تعلق أبو شقرا على هذا النمط: "الطوائف و زعاماتها تغذي لحمة كيانها بالخوف من الآخر من جهة، وبتقديم ذاتها كحامية لهذا الكيان الطائفي من جهة أخرى، فالشعار الذي ذكرته في سؤالك يندرج في هذا الإطار، إذ تعلن أنّ هناك خطراً وأنّك القادر على فعل كلّ شيء وأي شيء لحماية من ينتمون إلى كيانك من هذا الخطر. هذه لعبة تمارس على الصعيد السياسي في لبنان، ومن البديهي أن تمارس انتخابياً".
لعب على الكلام
هناك نمط مختلف يرتبط باللعب على الكلام يصل إلى مستوى السطحية أحياناً، من قبيل شعار للمرشح شامل روكز يقول: "أنا شامل، وشامل أنا"، ولرئيس الحكومة السابق تمام سلام: "سلام لبنان"، وللمرشح نبيل بدر: "أهلاً وسهلاً يا بدر البسطة"، وللمرشح سليم عون: "السليم في الصوت السليم"، وللمرشح يحيى مولود: "مولود إلنا"، وللمرشح ربيع عواد: "ربيع لبنان سينطلق من جبيل"، وللمرشحين جميل السيد وعلي عمار: "الصبر جميل والحق علي"، وللرئيس سعد الحريري: "لا سعد من دون سعد"، وللمرشح أمين شري: "ثقة الأمين" والمقصود أمين عام حزب الله حسن نصر الله، وغيرها كثير. فهل هو هبوط في مستوى الخطاب مثلاً؟
تعلق أبو شقرا: "لا أحبذ توصيف الشعار بالهابط أو غير الهابط، فبالنسبة إلى ماذا هو هابط؟ أعتقد أنّ الشعارات التي تبدو طريفة في أحيان كثيرة تعبر عن نمط الممارسة السياسية والانتخابية لدينا. أعتقد أنّ هناك أنماطاً متنوعة من الشعارات تلك التي ذكرتها وتركز على الشخص وتلك التي تعبر عن تيار أو جهة سياسية مثلاً شعار تيار المستقبل الذي كان في لبنان محط تندر خصومه في الآونة الأخيرة (الخرزة الزرقاء) يحاكي الموروث الشعبي لجمهوره. لا يمكن بهذا المعنى الكلام عن شعار هابط، فهل المطلوب وجود شعار أصلاً كي ينتخب الجمهور هذا التيار أو ذلك الحزب؟ إنّ ما يسمى بالحملات الانتخابية والتي تنتشر فيها الشعارات والصور يمثل لحظة كاشفة للسياسة والعمل السياسي وجديده اليوم هم مرشحو المجتمع المدني فهم يقدمون شعارات سياسية حداثوية، ويسبقون القوى التقليدية في أسلوب الترويج لا سيما على وسائل التواصل الاجتماعي، فهل سيغيّر هذا من واقع حظوظهم؟".
لقطات
تبقى الإشارة إلى بعض اللقطات المميزة المرتبطة بالمرشحين. فالنائب علي عمار تحتل صوره واللافتات التي تشيد به جميع أحياء الضاحية الجنوبية لبيروت تقريباً. من هذه الشعارات ما يذهب إلى حدود التطرف في تأييده كشعار "ما في ولي إلّا علي" أو "علي عمار ولو كره الكافرون"، ومنها ما يشير إلى الحلف الذي ينتمي إليه والذي يتزعمه الرئيس اللبناني ميشال عون وأمين عام حزب الله حسن نصر الله: "عونك من الله ونصرك نصر الله".
منها أيضاً غمزة من المرشح فؤاد مخزومي موجهة إلى منافسه رئيس الوزراء سعد الحريري يقول فيها شعاره: "ما تنتخب إلّا بيروتي" في إشارة إلى أنّ آل الحريري من صيدا (جنوب) أساساً. ولجأت شعارات كثيرة إلى السجع، من قبيل: "يا بيروت قومي قومي وانتخبي فؤاد مخزومي"، و"ما يروح صوتك عالفاضي (عبثاً) انتخب محمد خير القاضي". أحد المرشحين لعب على الوتر العائلي: "بدك (أتريد) عيتاني بالمجلس؟ انتخبه".
كذلك، هناك لعب موفق على الكلام في شعارات بعض المرشحين، من قبيل "فيك تغير المستقبل" للمرشح فيصل سنّو في إشارة واضحة إلى تيار المستقبل نفسه. ومن اللقطات المميزة أيضاً اللون النبيذي في خلفية لافتات المرشح عمر غندور عن بيروت. النبيذي معروف عنه أنّه لون نادي النجمة الرياضي لكرة القدم، الفريق الكروي الأكثر جماهيرية، والذي كان غندور رئيساً له لأكثر من ثلاثين عاماً. لكن، على الرغم من جماهيرية الفريق وتأييد كثير من أبناء العاصمة له، فإنّ قواعده الأكبر لا تنتخب في بيروت بل في الجنوب والبقاع وجبل لبنان، فلن تترجم إلى أصوات لغندور ولائحته.
وبالإشارة إلى الألوان، فإنّ لائحة نساء عكار المكونة من النساء حصراً اختارت اللون الوردي (الزهر) لحملتها، وهو لون أنثوي نمطي، مضيفة إليه شعار: "الزهر بيقهر قهر". نسائياً أيضاً، تستحضر المرشحة رلى توفيق الحوري شعار جريدة "السفير" التي أقفلت في نهاية 2016: "صوت الذين لا صوت لهم" وتضيف إليه: "قل لي من تنتخب أقل لك من أنت".
كذلك، لا بدّ من التطرق إلى بعض الشعارات التي تحمل عبارات بذيئة على سبيل الاستقواء الذاتي أو استضعاف الخصوم، عدا عن تخريب بعض الصور واللافتات بعبارات تلعب على الشعارات الأساسية، ولا مجال لذكرها هنا. وهو ما يمكن أن ينقل لغة الشارع إلى مستويات أبعد في ظلّ غلبة وسائل التواصل الاجتماعي على المشهد الانتخابي، والتي تنتقل عبرها يومياً صور كثيرة لشعارات مختلفة تتجاوز حدود الآداب العامة، كما تشهد هذه الوسائل على تلاعب البعض بالصور الأصلية ليضمنّها رسائل معينة مسيئة بدورها.
ولا يبقى بعد هذا العرض إلّا التذكير بلافتة كبيرة مجهولة التوقيع علقت على أحد الجسور، شرق بيروت، تدعو الناخبين إلى عدم القبول بالرشوة الانتخابية: "من يشتريكم بالعملة يبيعكم بالجملة". لكنّها مجرد لافتة وحيدة وسط بحر من التجييش الطائفي المناطقي الحزبي الذي لا تغيب عنه شبهات الرشى حتى.