22 فبراير 2016
شرم الشيخ وكفر الشيخ
في مصر اليوم شيخان، يتجلى في صورتيهما الواقع الملتبس الذي تعيشه مصر. شيخٌ شَرَم البلاد والعباد بتخبطه وعشوائية سياساته التي يتبع فيها منهج عبد الحليم حافظ "جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت.. ولماذا لست أدري.. لست أدري". وشيخٌ كَفَرَ من الفقر والقهر والغُلب من حياته التي تسير طبقا لمنهج فيروز "عشرون عاماً وأنا أحترف الحزن والانتظار.. أنتظر الآتي ولا يأتي".
شَرَمَ الشيخُ البلادَ بإسطوانات الاستقرار والبنية الأساسية والإصلاح التدريجي والريادة والدور المحوري والتوازن الخارجي، إسطوانات ظلت دائرة، كما يدور كأس الموت على العباد، حتى كَفَر الشيخ الذي رأى ركوداً لا استقراراً، ولم يفهم لماذا لا يكون الإصلاح شاملاً كالفساد، ولم يشهد ريادة إلا في التخلف والقمع والفرص الضائعة، ولم يعش الدور المحوري، إلا في طوابير العيش، بعد أن عَزّ الغُموس، ولم ينشغل بالتوازن الخارجي كثيراً، بسبب دوار رأسه من الاختلال الداخلي.
"شرمُ الشيخ وكفرُ الشيخ". انحاز نظام مبارك للأولى، فثارت عليه الثانية. لم تكن تلك مصادفة بقدر ما كانت رسالة تبحث عن قارئ حصيف يعي ويدرك. منذ أسابيع، قالها الرئيس وهو يرفض مشروع الجسر الحيوي بين مصر والسعودية، إنه لن يسمح لأحد بأن يعبث بشرم الشيخ، تصريح ربما لم يسمعه الذين ثاروا في كفر الشيخ، ربما لأنهم ناموا قبل نشرة تسعة، لأن أجسادهم كانت منهكة من البحث عن المياه طوال اليوم، ربما فضلوا أن يبحثوا في الوصلة عن ماتش، أو تمثيليةـ أو كليب عارٍ، لكي يبلوا ريقهم الذي نشّفه "الفقر الجديد"، وربما فضلوا أن يكتفوا بمشاهدة قناة الناس دون غيرها، لأن باقي القنوات قد تستثير شهواتهم، فتدفعهم إلى حميم البحث عن ماء "الحُموم"، وربما شاهدوا التصريح عمداً أو مصادفة، فأجّج فيهم السخط على ذلك الانحياز السافر إلى شرم الشيخ، فقضوا ليلهم يسألون عن الذي يجعل العبث بشرم الشيخ حراماً ويجعل العبث بكفر الشيخ جائزاً، إن لم يكن مستحباً.
دعك من كل هذه الرُبّماهات. فالمؤكد الذي نعلمه جميعاً أن سيدنا أبا ذر الغفاري ظهر، أخيراً، في كفر الشيخ، "عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"، وأهل البرُلّس في كفر الشيخ لم يجدوا ماء يومهم ولا أسبوعهم ولا شهورهم، فخرجوا على الطريق الساحلي شاهرين "جرادلهم" العطشى ومراكبهم المرهقة وفقرهم المدقع ووجوههم الشاحبة وأجسادهم المُنهَكَة من فرط الإنجازات.
هل كانت مصادفة أن يحدث ذلك في محافظة يحكمها رئيس مباحث أمن الدولة السابق الذي رأى في ما فعله الناس إساءة لسمعة المحافظة، لكنه لم ير في سَفِّهم التراب وتمنيهم الحُموم إساءة لكرامة الإنسان، وهل هي مصادفة أن يسوق القدر إلى موقع ثورة العطاشى مطرب الرئيس المفضل، محمد ثروت، دون غيره، هي رسائل القدر لا ريب. ولكن، من يقرأ؟
تتابع التفاصيل المتاحة عن الخروج الكبير في كفر الشيخ، وتسأل نفسك هل يصح أن يفرح المرء بخروج كهذا؟ تكون كاذباً لو قلت نعم على إطلاقها، من بالله عليكم يفرح أنه يعيش في غابة؟ لكن، هل العيب على من قرر أن يأخذ حقوقه غلابا، أم على من منع نيل المطالب وقبله منع التمني؟
تهرب من أسئلتك المفزعة متقافزاً بين القنوات، فتكتشف أن الرئيس مبارك لم يحنث أبدا بوعده تحقيق المساواة بين المصريين جميعا، في برنامج (90 دقيقة) يشكو ثري يمتلك فيلا في مدينة الشروق الجديدة، بأنه اضطر لشراء عربية مياه بخمسة وسبعين ألف جنيه، لكي يستطيع أبناؤه الخمسة أن يستحموا قبل ذهابهم إلى جامعاتهم، وفي برنامج (القاهرة اليوم) ثمة تقرير قنبلة يفضح بالصورة كيف تحفر نساء كفر الشيخ الرمال بأيديهن، لتخرجن المياه الجوفية، التي تلغ فيها الكلاب، لكي يشرب أبناؤهن الرُضّع منها مياها، ستفتت أكبادهم وتنحر كلاهم التي لن يستطيعوا حتى بيعها بعد ذلك، بينما، في الوقت نفسه، يزُفّ جمال مبارك إلى المصريين بشرى تخطيطه لمستقبلهم المشرق الآتي في عام 2050، قبل أن يتوقف، قليلاً، لكي يبلع ريقه ويصب كوبا من المياه.. المعدنية، ويشرب في صحة الشيخ الذي شَرَم، لأن الشيخ الذي كَفَر من العطش لا بواكي له، ولا بواكي عليه.
ربنا يبِلّ ريقك يا مصر.
مقال نشرته في صحيفة الدستور 7 يوليو 2007، وهو فصل من كتابي (جمهورية العبث) الصادر أخيراً، أعيد نشره اليوم بمناسبة عودة (عقلية شرم الشيخ) لتواصل شرم البلاد والعباد.
شَرَمَ الشيخُ البلادَ بإسطوانات الاستقرار والبنية الأساسية والإصلاح التدريجي والريادة والدور المحوري والتوازن الخارجي، إسطوانات ظلت دائرة، كما يدور كأس الموت على العباد، حتى كَفَر الشيخ الذي رأى ركوداً لا استقراراً، ولم يفهم لماذا لا يكون الإصلاح شاملاً كالفساد، ولم يشهد ريادة إلا في التخلف والقمع والفرص الضائعة، ولم يعش الدور المحوري، إلا في طوابير العيش، بعد أن عَزّ الغُموس، ولم ينشغل بالتوازن الخارجي كثيراً، بسبب دوار رأسه من الاختلال الداخلي.
"شرمُ الشيخ وكفرُ الشيخ". انحاز نظام مبارك للأولى، فثارت عليه الثانية. لم تكن تلك مصادفة بقدر ما كانت رسالة تبحث عن قارئ حصيف يعي ويدرك. منذ أسابيع، قالها الرئيس وهو يرفض مشروع الجسر الحيوي بين مصر والسعودية، إنه لن يسمح لأحد بأن يعبث بشرم الشيخ، تصريح ربما لم يسمعه الذين ثاروا في كفر الشيخ، ربما لأنهم ناموا قبل نشرة تسعة، لأن أجسادهم كانت منهكة من البحث عن المياه طوال اليوم، ربما فضلوا أن يبحثوا في الوصلة عن ماتش، أو تمثيليةـ أو كليب عارٍ، لكي يبلوا ريقهم الذي نشّفه "الفقر الجديد"، وربما فضلوا أن يكتفوا بمشاهدة قناة الناس دون غيرها، لأن باقي القنوات قد تستثير شهواتهم، فتدفعهم إلى حميم البحث عن ماء "الحُموم"، وربما شاهدوا التصريح عمداً أو مصادفة، فأجّج فيهم السخط على ذلك الانحياز السافر إلى شرم الشيخ، فقضوا ليلهم يسألون عن الذي يجعل العبث بشرم الشيخ حراماً ويجعل العبث بكفر الشيخ جائزاً، إن لم يكن مستحباً.
دعك من كل هذه الرُبّماهات. فالمؤكد الذي نعلمه جميعاً أن سيدنا أبا ذر الغفاري ظهر، أخيراً، في كفر الشيخ، "عجبت لمن لا يجد قوت يومه، كيف لا يخرج على الناس شاهراً سيفه"، وأهل البرُلّس في كفر الشيخ لم يجدوا ماء يومهم ولا أسبوعهم ولا شهورهم، فخرجوا على الطريق الساحلي شاهرين "جرادلهم" العطشى ومراكبهم المرهقة وفقرهم المدقع ووجوههم الشاحبة وأجسادهم المُنهَكَة من فرط الإنجازات.
هل كانت مصادفة أن يحدث ذلك في محافظة يحكمها رئيس مباحث أمن الدولة السابق الذي رأى في ما فعله الناس إساءة لسمعة المحافظة، لكنه لم ير في سَفِّهم التراب وتمنيهم الحُموم إساءة لكرامة الإنسان، وهل هي مصادفة أن يسوق القدر إلى موقع ثورة العطاشى مطرب الرئيس المفضل، محمد ثروت، دون غيره، هي رسائل القدر لا ريب. ولكن، من يقرأ؟
تتابع التفاصيل المتاحة عن الخروج الكبير في كفر الشيخ، وتسأل نفسك هل يصح أن يفرح المرء بخروج كهذا؟ تكون كاذباً لو قلت نعم على إطلاقها، من بالله عليكم يفرح أنه يعيش في غابة؟ لكن، هل العيب على من قرر أن يأخذ حقوقه غلابا، أم على من منع نيل المطالب وقبله منع التمني؟
تهرب من أسئلتك المفزعة متقافزاً بين القنوات، فتكتشف أن الرئيس مبارك لم يحنث أبدا بوعده تحقيق المساواة بين المصريين جميعا، في برنامج (90 دقيقة) يشكو ثري يمتلك فيلا في مدينة الشروق الجديدة، بأنه اضطر لشراء عربية مياه بخمسة وسبعين ألف جنيه، لكي يستطيع أبناؤه الخمسة أن يستحموا قبل ذهابهم إلى جامعاتهم، وفي برنامج (القاهرة اليوم) ثمة تقرير قنبلة يفضح بالصورة كيف تحفر نساء كفر الشيخ الرمال بأيديهن، لتخرجن المياه الجوفية، التي تلغ فيها الكلاب، لكي يشرب أبناؤهن الرُضّع منها مياها، ستفتت أكبادهم وتنحر كلاهم التي لن يستطيعوا حتى بيعها بعد ذلك، بينما، في الوقت نفسه، يزُفّ جمال مبارك إلى المصريين بشرى تخطيطه لمستقبلهم المشرق الآتي في عام 2050، قبل أن يتوقف، قليلاً، لكي يبلع ريقه ويصب كوبا من المياه.. المعدنية، ويشرب في صحة الشيخ الذي شَرَم، لأن الشيخ الذي كَفَر من العطش لا بواكي له، ولا بواكي عليه.
ربنا يبِلّ ريقك يا مصر.
مقال نشرته في صحيفة الدستور 7 يوليو 2007، وهو فصل من كتابي (جمهورية العبث) الصادر أخيراً، أعيد نشره اليوم بمناسبة عودة (عقلية شرم الشيخ) لتواصل شرم البلاد والعباد.