شرطة مصر تتظاهر أيضاً

02 سبتمبر 2015
تظاهرات أمناء شرطة مصر
+ الخط -
لا يمكن استغراب أو استنكار احتجاجات عناصر الشرطة المصرية أو رفض مطالبهم المرتبطة بالأجر والضمان الاجتماعي. يمكنك قول ما تشاء حول ممارسات الشرطة القمعية وأنها أداة للسيطرة والقمع وأن أفرادها يتجاوزون مهام عملهم ويرتكبون جرائم، لكن بناء دولة ديمقراطية عادلة لا يتنافى مع حل مشكلة الأجور وتوفير التأمين الصحي، بل ربما يكون تحقيق المطالب العادلة جزءاً من خطة جادة لهيكلة جهاز الشرطة وإصلاحها.

قطعاً، ليس لكل احتجاج طابع ثوري، فهناك نوع من الاحتجاج له طابع رجعي ومتخلف لا يغيّر المجتمع، بل يدفع إلى حدوث انتكاسات. في المقابل، ترداد شعارات الأجر العادل والمطالبة به من قبل أي قطاع أو فئة سيؤدي إلى الضغط على السلطة لتحقيقه وسيساهم في خلق نقاش مستمر حول أوضاع العاملين بأجر. لذا من المستغرب أن تتعامل بعض القوى التي تسمي نفسها ثورية مع المشهد بروح انتقامية، لا لشيء سوى أن المحتجين من أفراد الشرطة، فيما يجدر بها تأمل ما جرى وموقف أنصار النظام، حيث طالبوا باستخدام أقصى درجات العنف مع أفراد الشرطة، حين رفعوا مطالب اقتصادية. هؤلاء هم من يتغنى ليل نهار بتضحيات الشرطة، وكاد كلّ منهم أن يحمل حذاء الشرطة فوق رأسه وهو في الاستديو.

تناقض مواقف الكثيرين من المحسوبين على الثورة بين مساندة المطالب الاجتماعية والاقتصادية عموماً، وإنكارها لهذه الفئة خصوصاً، يعكس تناقضاً له أسباب عدّة، منها ما هو ثقافي وطبقي وسياسي، لكنه في النهاية لا يستقيم مع من يحاول تحسين ظروف فئات المجتمع ككل.

دعونا نتأمل المشهد الاحتجاجي: مئات من أمناء الشرطة وأفراد الأمن بالشرقية يتمردون ويتظاهرون ويصعّدون احتجاجهم إلى اعتصام بمديرية الأمن. تواجههم قوات الشرطة المعروفة بالأمن المركزي. يطلق الغاز المسيل للدموع ويتم تبادل إطلاق النار. يتضامن مع المعتصمين زملاؤهم من محافظات أخرى ليمتد الاحتجاج، وينتهي المشهد بتدخل قوات الجيش بعد سلسلة من محاولات التفاوض حول مطالب المحتجين.

ما سبق ليس مشهداً من مشاهد الثورة بالتأكيد، لكنه مشهد للاحتجاج الذي لا يمكن إنكاره، المشهد ليس مجرد فوضى كما يحسبه أنصار النظام، وليس مؤامرة وتظاهرا بتحريض إخواني مدفوع الأجر كما أعلنت المصادر الأمنية. التصريحات الرسمية للدولة حاولت إخفاء حقائق المشهد أو التزييف لإخفاء أزمات الواقع الاجتماعي. ما حدث أيضاً ليس تمرّداً ضد مؤسسة الشرطة كما فعل الشعب، لكن المطالب التي رفعها المتظاهرون من أفراد الشرطة أغلبها اقتصادية، وهي مطالب عادلة يرفعها الشعب منذ اندلاع الثورة.

المشهد الاحتجاجي هنا يحمل دلالات عديدة، أوّلها أن هناك تمييزاً وتفاوتاً صارخاً بين العاملين في قطاعات الأمن. قمة الهرم الوظيفي من رجاله يتمتعون بنفوذ وامتيازات ضخمة ويتقاضون رواتب مرتفعة، بينما قاعدة الهرم الأكثر عدداً، والبالغة حوالي نصف مليون عامل تقريباً، يتقاضون رواتب متواضعة، حجمها لا يختلف عن أجور باقي موظفي الدولة.

يحاول المحتجون من أفراد الشرطة الاستفادة ممّا صنعته الثورة، وقد استفادوا منها فعلياً، على مدار أربع سنوات استخدموا خلالها أدوات الاحتجاج كالتظاهر والاعتصام، إذ ارتفعت أجورهم ثلاث مرات متتالية، حين تكتلوا وطالبوا بذلك.

استمرت التحركات الاحتجاجية لأفراد الأمن واستمرت مطالبهم ولم تتغيّر رغم تغيير الحكومات. فأثناء حكم المجلس العسكري اعتبرت السلطة والكثير من القوى السياسية العائمة على السطح، أن الاحتجاجات عموماً تدبرها قوى نظام حسني مبارك، واستمر هذا الطرح في ظل حكم الإخوان المسلمين، ثم جاءت سلطة عبد الفتاح السيسي لتكمل بالنهج نفسه، معتبرة الاحتجاج مدفوع الأجر ويتم عبر تحريض من الإخوان المسلمين. وظل النظام يرمي المحتجين بالاتهامات أياً تكن انتماءاتهم، حتى لو كانوا أبناء لجهازها القمعي.

خلاصة القول، أن السلطة تعتبر أن كل احتجاج مؤامرة على جهاز الدولة لإسقاطها، لكن الواقع ومطالب المحتجين في كل مكان توضح أن الظلم الاجتماعي هو أساس التمرّد.
(باحث في الأنثروبولوجيا الاجتماعية/ جامعة القاهرة)
المساهمون