في منطقة البلطيق ودول الشمال والقطب الشمالي، تدور صراعات واستعراض قوة وسباق تسلح وتحالفات، تتداخل فيها عوامل جيوسياسية ومصالح الغاز والنفوذ والهيمنة. الأزمة الأوكرانية خلقت جواً مشحوناً، حمل تهديدات مباشرة باحتلال دول البلطيق من قبل الروس، عبّرت عنها مناورة روسية تحاكي احتلال السويد.
اقرأ أيضاً: أوكرانيا.. عام على ضمّ روسيا القرم
جاءت آخر هذه التصريحات التي تعزّز من جدية هذه الوقائع على لسان قائد الجيش السويدي، الجنرال أندرس برانستروم، الذي أعلن في 26 يناير/كانون الثاني الماضي، لصحيفة "أكسبرسن" ضمن وثائقي عن التوتر مع موسكو بأن: "السويد يمكن أن تكون في حالة حرب خلال سنوات قليلة".
وأشار الجنرال إلى تدريب الجيش السويدي، وإلى مناورات كبيرة مرتقبة في بداية الأسبوع الأول من فبراير/شباط في بودن (شمال البلاد). وقال "على خلفية تلك المناورات لهذا العام 2016، سيجري توحيد كل الجهود لتكون قدراتنا متسقة وشاملة في مجال القدرات الحربية؛ فالبرلمان والسياسيون يقررون نشاطات الجيش ورفع قدراته في الأعوام الأربعة المقبلة على أساس مواجهة قوة عسكرية قوية ماهرة وقادرة وللدفاع عن بلدنا".
من جهته، أعلن مسؤول لجنة الدفاع في البرلمان السويدي، آلان فيدمان، بأن "الوضع خطير جداً؛ فالسويد التي عاشت لـ 200 عام بدون حروب تجد نفسها في حالة نزاع عنيف مع دولة مجاورة". ودعا للاستعداد لخطوات تصعيدية يقدم عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تحت وطأة الضغوط السياسية: "فإما أن يفرّ من شبه جزيرة القرم، أو يتخذ خطوات عسكرية تصعيدية في المنطقة"، بحسب فيدمان. أما زميله في اللجنة نفسها ميكائيل أوسكارسون، فقال إن "السويد يمكن أن تُهاجم؛ التهديد بحق دول البلطيق يعني أننا مهددون، وبالتالي يجب أن نكون مستعدين للتصرف جدياً في الأزمات والحروب". ورأى خبراء عسكريون محليون أن "روسيا تشكل تهديداً حقيقياً بعد الذي جرى في أوكرانيا وجورجيا، ونتيجة الضغوط الاقتصادية بسبب المقاطعة وانخفاض أسعار النفط".
التهديدات التي يتحدث عنها العسكريون في السويد بلغت ذروتها في عام 2014، وتكررت العام الماضي، بخروق روسية متاخمة لاستوكهولم، عبر غواصات روسية في المياه الإقليمية السويدية، واستفزازات عسكرية جوية، أسوة بعدد من دول أوروبا. ودفعت هذه التهديدات أحزاباً وشخصيات سويدية إلى دراسة خيار الانضمام إلى حلف شمال الأطلسي، بعدما كانت تعارض ذلك سابقاً.
تعاون عسكري ومصالح
التحرشات الروسية في البلطيق وبحر الشمال أقلقت معظم دول المنطقة؛ ففي الأسبوع الثاني من يناير/كانون الثاني، عقدت الدنمارك والسويد اتفاق تعاون عسكري موسع، وصف بـ"الاتفاق التاريخي"، ينص للمرة الأولى على حرية الحركة للطائرات والبواخر الحربية، وحرية استخدام كافة المنشآت المطلوبة كالمطارات والموانئ دون موافقة مسبقة. كما يمنح الاتفاق الجيش الدنماركي حرية التصدي للطائرات الروسية في المجال الجوي السويدي. مثلما وقع في بداية العام الحالي، حيت قامت طائرات "إف 16" دنماركية بصدّ طائرات روسية اقتربت من المجال الجوي السويدي. وسبق الاتفاق توقيع اتفاقية مع الجانب الفنلندي ضمن جهود حلف الأطلسي لضم الدولتين لمخططاته بالتصدّي للخطر الروسي في البلطيق.
وبرّر وزير دفاع الدنمارك، بيتر كريستيانسن، اتفاقية التعاون والدفاع مع السويد باعتبار أنّ "روسيا في سباق تسلّح، وتجهز فرقاً عسكرية على النسق الغربي في الحروب. والتعاون الذي كان قائماً معها بعد انهيار جدار برلين انتهى، وبدأ عصر سباق التسلّح".
ورغم أنّ مراقبين عسكريين وخبراء في الأكاديميات الدفاعية في استوكهولم وكوبنهاغن لا يعتقدون بأنّ روسيا ستُقدم على مهاجمة دولة في حلف "الأطلسي"، إلا أنهم لا يخفون قلقهم تجاه "تحدي الخاصرة الرخوة في السويد وفنلندا واستفزاز دول البلطيق".
عين الدب على القطب الشمالي
ويُرجع محللون للشأن الروسي التصعيد الحالي إلى ما يجري في القطب المتجمد الشمالي، وسعي موسكو لفرض حضورها العسكري من خلال الكاسحات والغواصات النووية. وبحسب تقارير دفاعية واقتصادية شمالية، فإن بوتين "يعتبر منطقة القطب الشمالي الجبهة الرابعة"، ويريد جعلها "منطقة نفوذ" تعيد أحلام القوة العظمى إلى الواجهة.
ويرى هؤلاء المحللون أن موسكو تنظر إلى المنطقة القطبية "كمنطقة استثمار تنشأ فيها مسارات شحن بديلة نحو الشرق الأقصى". وبناء عليه، يقول الأستاذ المختص في شؤون المنطقة القطبية في جامعة كولومبيا، مايكل بايرز، إن سياسة بوتين تقوم على "إزاحة بقية الدول الموقعة على اتفاقية القطب الشمالي الموقعة في العام 2008 من خلال إعلان إيلوليسات"، وهي الولايات المتحدة الأميركية وكندا والنرويج والدنمارك؛ ففيما وافقت دول الساحل على أنها وحدها المسؤولة عن منطقة المحيط المتجمد الشمالي، وبشكل سلمي، بقي الروس غير آبهين بالإعلان من خلال الحضور العسكري. وبحسب المختص في سياسة القطب من "أكاديمية الدفاع" في كوبنهاغن ريبر نوردبو، فإن الروس يريدون القول من خلال ذلك:"نحن أكبر دولة إقليمية، بل نحن الدولة العظمى وعلى الجميع الاعتراف بنا".
ويبدو أن قلق دول الشمال يستند أيضاً إلى أرقام روسية حول مطالبة بوتين بتسليح الجيش الروسي بأربع كاسحات ألغام جديدة مخصصة لأسطول الشمال وموازنات ضخمة جداً حتى عام 2020 مخصصة للتسلح شمالا، بالرغم من الأزمة الاقتصادية.
في المقابل، يستبعد متفائلون حصول صدام مع روسيا، وتستند رؤيتهم هذه إلى أن موسكو تبحث عن مصالح لها، ولا يمكنها التفريط باتفاقية "نورد ستريم" للغاز إلى أوروبا الغربية والتي وافقت عليها الدنمارك ودخلت في الطور الثاني من تنفيذها. لكن هؤلاء لا يخفون أن بوتين يلعب في مسألة السياسة لتحقيق مكاسب تجارية، وهو ما يراهن عليه المؤمنون بإمكانية تخفيف وتجاوز الأزمات.
اقرأ أيضاً: روسيا تهدد بالرد بالمثل على حجز ممتلكاتها في الخارج