شباب تونس... عندما يبتلع البحر الآمال والأحلام

22 أكتوبر 2017
ابتلع البحر ولدها.. وأولادهم جميعاً (سفيان حمداوي/ فرانس برس)
+ الخط -

منذ بداية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري حتى الثامن عشر منه، وصل 1500 مهاجر تونسي غير شرعي إلى إيطاليا. الرقم مهول، هذا إذا سلّمنا أنّ كلّ الذين بلغوا اليابسة الإيطاليّة جرى إحصاؤهم.


شهدت مدينة بئر الحفي من محافظة سيدي بوزيد في الوسط التونسي، يوم الأربعاء الماضي، إضراباً عاماً ويوم حداد، حزناً وغضباً على فقدان 11 شاباً من أبنائها، بعد اصطدام مركب يقلّ مهاجرين سريّين تونسيين من مختلف المحافظات بقارب دورية عسكرية وغرقه يوم الأحد في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول الجاري.

وجابت شوارع المدينة مسيرة شعبية وجنازة رمزية بعد الفاجعة التي طاولت أهلها وعمّت كلّ أرجاء البلاد. يُذكر أنّ حصيلة الضحايا الأوليّة بلغت 46 تونسياً تعرّف على جثث معظمهم التي سُلّمت إلى العائلات، في حين تتواصل عمليات الغوص بحثاً عن جثث أخرى. وترجّح جهات عدّة أن يصل عدد الغرقى إلى نحو ستّين شخصاً.

على الرغم من أنّه لم يُعلن عن تفاصيل الحادثة رسمياً، في انتظار استكمال التحقيقات، فإنّ ثمّة مصادر تشير لـ"العربي الجديد" إلى أنّ "الرواية تحكي عن ملاحقة الخافرة العسكرية للمركب وتوجيه الأوامر له بالتوقف، لكنّه لم يذعن لذلك وواصل الإبحار في اتجاه المياه الإيطالية. وعندما شاهد ربان المركب في الجهة المقابلة قارباً للحرس الإيطالي، عمد إلى إطفاء الأضواء، وهو الأمر الذي تسبب في اصطدامه بالخافرة العسكرية التونسية". وتبقى هذه الرواية غير مؤكدة إلى حين صدور نتائج التحقيقات بصورة رسمية. وتؤكد مصادر أخرى لـ "العربي الجديد" أنّ "ثمّة عزماً من قبل الجهات الرسمية التونسية على الإسراع في التحقيقات ونشرها".

وكان مجلس الوزراء التونسي قد عدّ الحادثة بمثابة كارثة وطنية، داعياً إلى ضرورة تكاتف كلّ التونسيين من مختلف الفئات والجهات في مثل هذه الظروف العصيبة. من جهته، شدّد رئيس الحكومة يوسف الشاهد على ضرورة استكمال التحقيقات في أقرب وقت والكشف عن نتائجها للرأي العام، مع تحديد المسؤوليات في الحادثة وتطبيق القانون والنأي بالمؤسسة العسكرية عن التشكيك والتجاذبات. ودعا إلى مزيد من الإحاطة والعناية المعنوية والمادية العاجلة بعائلات الضحايا وتعزيز إمكانات الخلايا الجهوية المعنية والفاعلة.

إلى ذلك، شدّد المجلس على ضرورة تعزيز اليقظة أمام تفاقم ظاهرة الهجرة السريّة، وعلى أهمية تتبع الشبكات الإجرامية والعصابات المختصة في "التغرير بأبنائنا" من الشباب الراغب في الهجرة، والتي يدخل نشاطها في نطاق الاتّجار بالبشر مثلما تعرفه التشريعات والاتفاقيات الدولية.




في السياق، أوضح القضاء العسكري الذي يتولّى القضية أنّ "الأبحاث والتحقيقات بخصوص الحادثة ما زالت جارية بنسق حثيث، من قبل قاضي التحقيق العسكري، في إطار ما يفرضه استقلال السلطة القضائية وحيادها وتطبيق ما يمليه القانون... ولن يتوانى عن تتبّع كلّ من تثبت مسؤوليته في القضية، من دون التوقّف عند صفته أو مركزه". أضاف في بيان أصدره الخميس الماضي أنّ فريق الغوص المختص توصّل إلى تحديد موقع المركب في المياه الدولية على عمق 52 متراً من سطح البحر.

وتابع بيان القضاء العسكري أنّ الفريق تمكّن من التقاط صور وتسجيل مقاطع فيديو لموقع الغرق والحالة التي استقر عليها المركب. كذلك انتُشلت جثتان من داخل قمرة القيادة، إحداهما تعود إلى أنثى، بالإضافة إلى جثة ثالثة من غرفة المحركات وجثث أخرى وجدت على متن المركب وفي محيطه. وأشارت إلى أنّ قاضي التحقيق العسكري كلّف خبيراً مدنياً مختصاً في المجال البحري ومعتمداً لدى المحاكم الوطنية بإجراء الاختبارات اللازمة والمعمّقة بهدف الوقوف على كيفية وقوع الحادث البحري والأسباب الحقيقية التي أدّت إلى ذلك.

بلغوا جزيرة لامبيدوزا الإيطالية أخيراً (فيليبو مونتيفورتي/ فرانس برس)


لماذا يموت الشباب غرقاً؟

هذه البيانات والمواقف كلّها لا تجيب عن أسئلة جوهرية يطرحها التونسيون وهم يتابعون تفاصيل هذه الفاجعة: لماذا يموت شبابنا غرقاً؟ ولماذا ارتفعت نسبة الراغبين في "الحَرْقَة" إلى إيطاليا أو "الهَجَّه" من البلاد، كلّف ذلك ما كلّف؟ يُذكر أنّ الأمر ليس غريباً ولا مفاجئاً، فالأرقام تتحدّث عن نفسها وتؤكّد أنّ ألفَين و700 تونسي وصلوا هذا العام إلى السواحل الإيطالية. واللافت أنّ أكثر من نصفهم، أي 1400 تونسي وصلوا خلال شهر سبتمبر/ أيلول وحده. لكنّ مستشار كاتب الدولة للهجرة، فهد تريمش، أوضح في تصريح إذاعي أخير أنّ عدد المهاجرين التونسيين بطريقة غير شرعية إلى إيطاليا وصل إلى 1500 منذ بداية أكتوبر/ تشرين الأول الجاري حتى 18 منه. فأين كانت اليقظة ومراقبة السواحل؟ والأهم، لماذا ارتفع عدد "الحارقين" بهذه الصورة المخيفة في الآونة الأخيرة؟

ولا يظنّنّ أحد أنّ هذه الفاجعة أثنت آخرين حالمين بالهجرة إلى إيطاليا، إذ تمكّنت الوحدات الأمنية في جزر قرقنة (شرق) أخيراً من إلقاء القبض على خمسة أشخاص من بينهم امرأة، بتهمة التخطيط للهجرة غير الشرعية نحو السواحل الإيطالية انطلاقاً من هناك. وتبيّن أنّ أربعة من بين الموقوفين من المطلوبين بقضايا مختلفة، منها العنف والسرقة واجتياز الحدود خلسة.

كذلك، أحبطت وحدات إقليم الحرس الوطني في زغوان (شمال شرق)، الثلاثاء الماضي، محاولة خمسة تلاميذ في المرحلة الإعدادية في مدينة الفحص في ولاية زغوان، لا تتعدّى أعمارهم 17 عاماً، اجتياز الحدود البحرية خلسة انطلاقاً من ميناء رادس جنوبيّ شرق العاصمة. وتفيد المعطيات الأولية بحسب وكالة الأنباء التونسية، نقلاً عن مصدر أمني، أنّ هؤلاء التلاميذ قرّروا "الحرقة" عبر ميناء رادس عبر التواري في إحدى البواخر المتّجهة إلى أحد البلدان الأوروبية. أضاف المصدر نفسه أنّه، وعلى أثر ورود معلومات حول هذه الحادثة وبالتنسيق الفوري بين وحدات الحرس الوطني في الجهة ومصالح الميناء، ألقي القبض على التلاميذ الخمسة قبل الإبحار خلسة واحتجزوا على ذمّة البحث الذي تعهّدت به فرقة الأبحاث العدلية في زغوان.

لم يُعلَن الحداد بعد

لم تعلن الحكومة التونسية الحداد على الغرقى ولم يعزِّ الرئيس الباجي قائد السبسي الشعب في مصابه الجلل، ولم يتحوّل الأمر إلى قضية ذات أولوية لدى الأحزاب ولم يغص النقاش في الأسباب الحقيقية التي تقف خلف هذه الموجة المرتفعة من هجرة الشباب. تجدر الإشارة إلى أنّ التحقيقات بيّنت أنّ العائلة التونسية تدّخر وتبيع ما لديها لتوفير ثمن "الحرقة"، فيركب التونسيون من نساء ومسنين وأشخاص معوّقين وشباب البحر طمعاً في أيام أفضل.

في السياق، دعا الاتحاد المحلي للشغل في مدينة بئر علي بن خليفة في ولاية صفاقس (وسط) إلى تنفيذ إضراب عام في الجهة يوم الأربعاء المقبل الواقع فيه 25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، تحت عنوان "يوم غضب وحداد"، تتخلله مسيرة تجوب شوارع المعتمدية. ويأتي ذلك على خلفيّة حادثة مركب الصيد الذي اصطدم بقارب الدورية العسكرية، وللمطالبة بفتح تحقيق جدي وشامل في ملابسات ذلك ومحاسبة المتورطين في الكارثة.

إلى ذلك، ثمّة ظاهرة جديدة تترافق وتلك الرحلات التي يُفترض أن تكون سريّة، إذ أصبح المهاجرون يصوّرون تفاصيلها ويذكرون أسماءهم وأسماء أحبّائهم وينشرونها على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو ما يعني أنّ جداراً انهار وأنّهم لا يخافون من أيّ شيء بعد اليوم. وفي أحد التقارير المتلفزة قبل أيام، سأل المذيع أحد الموقوفين بعد إحباط عملية هجرة سريّة، "ماذا بعد؟". فأجاب متأسفاً: "لم تنجح هذه المرة لكنّها قد تنجح في المرّة المقبلة".

يرفع شارة النصر في إيطاليا (فيليبو مونتيفورتي/ فرانس برس)


مقامرة بالحياة

في مدينة كومو الواقعة بين إيطاليا وسويسرا، التقينا قبل سنوات مجموعة من الشباب التونسي المهاجر. كان هؤلاء يتنقّلون من بلد إلى آخر، سعياً إلى وجهة لا يعرفونها لكنّها توافق على استقبالهم. هؤلاء لم يكونوا يملكون أورو واحداً وكانوا من أحياء شعبية فقيرة في تونس العاصمة. سألناهم إذا كانوا ينوون العودة إلى تونس، وإذا تعبوا من ملاحقة البوليس الأوروبي في كل مدينة، وإذا أعياهم الجوع والنوم في الشوارع الباردة جداً. فكانت إجابتهم واحدة: "لن نعود إلا بعد تحقيق الثروة".

ويعرف التونسيون جميعاً أنّ أحلام الهجرة ليست وليدة السنوات الأخيرة مثلما قد يتبادر إلى الأذهان، وإنّما هي راسخة منذ عقود وتنتقل عبر الأجيال، وتتزايد صيفاً بصورة خاصة عند عودة العمّال المهاجرين لقضاء العطلة في تونس مع سياراتهم الجميلة وحالتهم الميسورة، على الرغم من أنّ كثيرين منهم لا يحملون شهادات علميّة تؤهلهم لذلك. وهذا ما يجعل العاطلين من العمل خصوصاً يأملون بأنّ الحلم ممكن.

وأمام القوانين الأوروبية المجحفة الخاصة بالتأشيرات وبالهجرة القانونية، لم يعد أمام هؤلاء الحالمين سوى فرصة المقامرة بحياتهم عبر البحر، وهذا حال شباب كثيرين في دول الضفة الجنوبية للمتوسط وليس التونسيين فقط. تجدر الإشارة هنا إلى أنّ حكومات تلك الدول فشلت في مفاوضاتها حول هذا الشأن مع الاتحاد الأوروبي، مثلما فشلت نخبها في تجديد الأمل لدى أبنائها وثنيهم عن المغامرة بحياتهم، وفشلت في تحويل الأمر إلى قضية وطنية ذات أولوية قصوى، وفشلت في تأجيل المناكفات السياسية اليومية التافهة أمام موت العشرات منهم، وفشلت في فتح أبواب عمل، وفشلت في ابتكار صيغ جديدة لحثّ الشباب على المبادرة وابتداع طرق أخرى غير التشبّث بالانتداب في الوظيفة العمومية.

ونرى السلطات التونسية تلاحق شباباً يعيشون على هامش الحياة التجارية المنظّمة، وتلقي القبض على كثيرين منهم يعيلون عائلاتهم بهذه التجارة الموازية، في مشاهد تبدو استعراضية في أحيان كثيرة. ربما هي محقة في ذلك بحكم تنامي الاقتصاد الموازي وخطره على الأوضاع في تونس، لكنّه كان يتوجّب على محافظيها ومسؤوليها أوّلاً توفير فضاءات منظمة لهؤلاء الشباب الذين يرغبون في العيش ولا يستطيعون العمل في مؤسسات هي في الأساس غير قادرة على الانتداب، بالإضافة إلى عدم تحصيل هؤلاء أيّ مؤهّلات وشهادات تمكّنهم من ذلك. بالتالي، لم يعد أمامهم إلا البحر ملجأ، من دون أن تفلح الطرق التقليدية للتواصل في إقناعهم بأنّ أوروبا ليست حلماً وهي لا تضمن لقمة العيش بالضرورة، لأنّ ثمّة مئات من المحتجزين في السجون الأوروبية ومئات من المفقودين الذين لا نعرف عنهم شيئاً.

وتشير أرقام إلى أنّ عدد المحتجزين في أحد مراكز الاحتجاز في إيطاليا يصل إلى 800 تونسي، وسوف يُصار إلى التنسيق بشأنهم مع السلطات الإيطالية. لذا، تتوجّه إلى إيطاليا قريباً بعثة تونسية للبحث في مصير هؤلاء. في السياق، يشير المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أنّ ثمّة ألفاً و500 مفقود، أكّدت عائلات كثيرين منهم أنّهم أحياء وربما يقبع بعضهم في السجون الإيطالية، لكنّ لا أحد يعرف شيئاً عنهم.

المساهمون