قبل تلك الأمسية كانت علاقتي مع قصيدة زياد، لا مع زياد نفسه، فكثيراً ما كنت أسرد له قصة "سرقتي" لمجموعاته الشعرية من مكتبات الأصدقاء، وعكوفي على قراءتها، وكيف كان لتلك المجموعات الأثر الكبير وغير المباشر في نسف مفهومي للشعر والقصيدة.
فمن "مرضى بطول البال" و"كمائن طويلة الأجل" و"تسمية الدموع" و"شمس قليلة"، وصولاً إلى "زهو الفاعل"، مجموعته الشعرية الأخيرة، وأنا أمرّن نظرتي لتكون متأمّلة ومتألّمة، وأسنّ حرفي ليكون "مخلبَ النُّطق الذي يخدش وجه الكون" - تعبيره الأثير- قبل النزول عن خشبة الحياة.
في كل مرّة كنت أقرأ قصائده كنت أمزق ما كتبت قائلاً لنفسي: سأبدأ من جديد، حتى أصبح مصير ما أكتبه في سلة المهملات. ولم يقتصر همي عندئذ على كتابة قصيدة، بل على الطريقة التي أمدّها فيها بالحرارة وأجعل منها كميناً يعضُّ ذائقة من يقرأها.
عندها توقفتُ عن قراءته، بعدما اطّلعتُ على كل ما أصدره من مجموعات ونشره من قصائد ومقالات وأجراه من حوارات، ظننت أنني تعافيت من فخّهِ وبدأت أكتب آملاً ببلوغ قصيدة مؤثرة، لا جميلة فحسب.
إلى أن التقيت بالعناني، وحدثته عن كل ما فعلته قصائده بنصوصي، فضحك بخجلٍ وتهرّبٍ قائلاً لي: اكتب. فكتبت، وكانت مجموعتي الأولى، "أرمل السكينة"، التي رافقني طيلة إعدادي لها.
*
اقترب العناني من الشعراء الشباب أفكاراً وإنتاجاً، وقد رأى بذرة المختلف والجديد في كتاباتهم، فاطمأن لبعضها ويئس من الآخر. أما هم فاقتربوا منه واستمدوا طاقاتهم في الحياة وفي الكتابة من سلوكه الشعري والإنساني. فزياد لم يكُن مُنظّراً من علٍ بقدر ما كان واحداً من شعراء هذا الجيل.
وما قدمه العناني من حرص على الشعراء الشباب دفع بهم إلى القلق والاهتمام بطريقة مضاعفة بما يكتبون وينشرون، وإلى العمل بدأبٍ على نصوصِهم وتطويرها من مرحلة إلى أخرى، بجدية وانتباه.
كان من نتاج هذا الاهتمام ظهور أصوات شعرية جديدة التفت إليها شعراء الجيل السابق؛ الجيل الذي غض الطرف طويلاً عنها. فصارت تُقرأ قصائدها في الملاحق والمجلات التي كانت حكراً على شعراءٍ من ذوي "الأسماء الكُبرى"، وصارت تُقرأ مقالاتها النقدية في الشعر ونشاطاته.
لم ولن ننسى ـ نحن شعراء هذا الجيل ـ المعارك المباشرة التي كان يخوضها العناني مع أبناء جيله في الدفاع عنا، أو ما كتبه عنا في الصحف؛ وأستشهد هنا بمقالته "شعراء الألفية الثالثة"، التي قال فيها:
"لا أريد أن أمدح قصائد هذا الجيل الجديدة ونقول إنها قامت على أنقاض قصائد كثيرة لمجرد أن يواصل المرء ثناءه، بقدر ما نريد أن نلفت إلى تجارب ليست قاصرة ولم تنهض لمدح أو إرضاء جهة أو عرف، بل نهضت على اقتناص المؤلم وعلى فهم جمالي يتخطى حدود الهلوسة".
لزياد العناني تحية كبيرة منا، تحية تليق بهذا الشاعر المجروح بالكون، المتوهّج الدمعة والقصيدة المقطوفة من أقاصي الشعر الصافي، قارئ ألم البشرية ببصيرة وأخوة نادرتَين.