شاعر الحواس يتمشّى في هواجسه

25 اغسطس 2015
لوحة للفنان المغربي محمد السالمي
+ الخط -
ثمة شاعر منصةٍ، وثمة شاعر ساحات، وثمة شاعر شعراء، وثمة شاعر نقّاد. محمود درويش كل هذا وذاك، صفةٌ لم تتسن، كما أرى وأظن، إلا لشاعرين في عصره: فيديريكو غارسيا لوركا وفلاديمير مايكوفسكي. فهو الشاعر العربيُّ الوحيد الذي أخذ قارئه إلى حيث يريد أن يأخذه، إلى مجاهيل لم يعتدها، فاعتادها، وإلى أشكالٍ لم يألفها، فألفها، وإلى لغة تتوالد من مجاز بعيد، تستوجب إدراكاً جمالياً عالياً، وإلى تكافؤ صوتي متوتر ومتواتر، يتوافق مع نسيجه اللغوي والإيقاعي يتطلب "قارئاً عنيداً"، لم يألف ذلك في القول الشعري، قبلاً، فجذبته قصيدة درويش إلى دائرتها المغناطيسية. لقد أدخل القارئ، بموهبته الفذة، إلى غابة مُتشابكة، من العلاقات الشعرية المعقدة، القارئ الذي اعتاد على شرح المفردات، ومعاني الأبيات، ومقاصد الشاعر، إلى آخر ذلك من تبويبات تؤطر المعنى وتضعه في خانة الشرح والتفسير، اللذين يُرادُ بهما توحيد الأذواق على اختلافها ! ففي مشروعه الشعري وصل إلى مستويات خلاقة وعميقة في برنامج إبداعي مفتوح النهايات، لا يستقر على حال عند بلوغ نهاية طور، أو هو يتوقف أساساً لكي ينطلق بصوابٍ وثبات، بعيداً عن سكون الطور، وقريباً من خطوة التطوير التالية.
وكأنه كان مطمئناً إلى قدرته الاستثنائية، في ترويض الذائقة، لصالح مشروعه الشعري الصعب، الذي "لملم" الأذواق حول نصه، كما تلم قوة الجذب برادة الحديد، فقاد قارئه إلى ساحة صار فيها، عنيداً عريضاً واعياً ومرهفاً، ومتطلباً، يتماهى بقوة مع البرهة الدرويشية، ملاذاً من مشهد شعري مأزوم ! قارئ "جرّه" درويش، بلطف وحزم، ليذهب معه إلى حيث يريد لقصيدته أن تصل. تلك القصيدة التي لم تكتفِ بما وصلت إليه من سوية عالية في تركيبها العضوي، وبنيتها الوظيفية، وصورها التي تجاوزت محدودية المعنى، من خلال تشكيل الدلالات المتعددة للفظ الواحد، والمبنية حيناً على جمالية "فجة"، توازي في حدتها ووضوحها واقع الحال، الذي يستدعي لغة توازيه، لغة تظهر نفورها وعنفوانها:"عربٌ أطاعوا رومهم، عربٌ وباعوا روحهم، عربٌ وضاعوا"، أو "وأن مديح الوطن، كهجاء الوطن، مهنةٌ مثل باقي المهن"، إلى سوية في القول الشعري، لم تتسن لسواه: "خلعت معاطفها الجبال وخبأتني" أو "يا امرأةً من حليب البلابل كيف أعانق ظلي وأمشي".

اقرأ أيضاً: عن الشاعرية

ومن قصائد مبنية على تكافؤ بين المحمول وشكله كقصيدتي "سجّل أنا عربي" و"أحن إلى قهوة أمي"، اللتين أصبحتا منشوراً جمالياً لجيل بكامله، إلى قصائد منوعة التشكيل في أبنيتها اللغوية، متعددة الأداء الصوتي، متشابكة، يتعاضد فيها المباشر الحاد، مع المجازي عالي السوية كـ "مديح الظل العالي" و"مأساة النرجس، ملهاة الفضة" النص الذي يستثمر الأسطورة والرمز، بما يحملها إلى سوية الملحمة، التي تتكئ على محمول إنساني مشحون بالمساندة الوجدانية للضحايا، حتى ليبدو الشاعر أكثر من وثيق الصلة بمشاعر ناسه والآخرين. لا يتكلم بحنجرتهم.. نعم، ولكنه يتمثلهم وينحاز إليهم دون مواربة أو تحايل، فمن حوار له أجراه معه عباس بيضون يقول: "من حق الشعر أن يعلن يأسه ولا يلام إعلامياً على هذا اليأس. أنا لا أعرف شعراً عظيماً وليد حالة انتصار، حتى في التراث الإغريقي. نحن لا تهزنا مدائح النصر بقدر ما يهزنا التضامن مع الضحايا. نعم هذا ما أريده. خياري أن أكون شاعراً طروادياً، لأنني منحاز تماماً إلى الخاسرين، الخاسرين المحرومين من حق تسجيل خسارتهم وإعلان هذه الخسارة. أنا ميال إلى التعبير عن هذه الخسارة لا إلى التسليم بها".
كان بودي أن أتوقف عند ملمحين بارزين في شعر محمود درويش، نادرين عند سواه، إذا استثنينا بعض قصائد بدر شاكر السياب في الشعر العربي، ولوركا وباسترناك وفوزنسينسكي في الشعر الغربي، فالإيقاع، والإيقاع الداخلي، يمارسان نفوذاً واضحاً في تأكيد المعنى، فيصبح مدركاً جمالياً وعاملاً أساسياً في ذهاب القصيدة إلى أقصى طاقتها الدرامية المتوترة، فترادف الحروف والتكرار والتكافؤ الصوتي، يستثمرها محمود درويش استثماراً فنياً، يحيل إلى توازن "هارموني" بين المحتوى وصورته الإيقاعية ليتضامنا في فعالية نادرة تخاطب الحواس : "وما كدنا نعض الأرض حتى انقض حامينا على الأعراس والذكرى فوزعنا أغانينا على الحراس، من ملك على عرش، إلى ملك بلا نعش"، وإلى التقفية في آخر المقطع، وليس في آخر البيت، وهي من منجزاته في الشعر العربي، لتخلق تواؤماً في نسيج أدائي شديد التماسك، يمكن المادة اللغوية من توصيل المعنى..
إن هذه الصفات لا تتسنى إلا لشاعر ذهب بعيداً، ليكون شاعر الناس، لا شاعر قلة مبتسرة، أو اتجاه، أو مجموعة بشرية، أو نقاد اتجاه معين.
كان فلسطينياً، نعم، ولكن لم تأتِ قيمته الشعرية من هذا التوصيف، وإن حاول بعضهم الإيحاء بذلك، بل من قدرته الفذة على رفع المأساة إلى سوية التراجيديا الإنسانية، وكان عربياً، نعم، لكن هذه الصفة لم تمنعه من أن يكون شاعراً كونياً، فتح نوافذ في الشعر العالمي، لن يغلقها الزمان.
في ذكرى رحيله السابعة، وبعدها وبعدها، سيظلُّ محمود درويش معنا يوسّع من دائرة إحساسنا بالجمال والحياة والكرامة البشرية.
المساهمون