عند سفح جبل التركمان في شمال محافظة اللاذقية، تجلس "سيّدة الجبل"، هكذا تحبّ أن تُدعى أم يارا، بثوبها القروي المطرّز وغطاء أبيض ينسدل على رأسها. وبيدَيها السمراوَين تخلط الماء والطحين لتصنع العجين. وتفوح من ثمّ رائحة الخبز من تنّورها.
تقول "الخبز أسطورة. ما من شيء أجمل من تناول رغيف من صنع يدَيك. فصناعة الخبز متعة لا تضاهيها أخرى، مع أني لم أتخيّل للحظة أن يدي ستدخل لهب التنّور وتصنع خبزه". قبل عشرين عاماً، استقرّت أم يارا في جبل التركمان مع زوجها الذي أحبته، وقد رُزقا بابنتَين ملأتا حياتهما سعادة. تستذكر الأيام الخوالي "حين كنا نعيش حياة كريمة براتب زوجي إلى جانب العمل في الزراعة. وقد تمكنا من تحسين دخلنا وشراء سيارة. وجاءت الثورة، فأيقظت أحلامنا".
نشطت "سيّدة الجبل" في الثورة السوريّة منذ قيامها عام 2011، وكانت من أشدّ المعارضين للنظام بخاصة بعد أن شاهدت القمع والعنف وعمليات الدهم والاعتقال في منطقتها. كانت مؤمنة بالتظاهر الحضاري للمطالبة بالحقوق المسحوقة. وتقول "بدأت ثورتنا في جبل التركمان على يد شباب حالم وطموح. بدأوا يعملون في الخفاء، في حين كان الشبيحة وقوات الأمن يتنقلون في سيارات مدججة بالسلاح، وكان منظرهم يستفز الكبير والصغير".
ومع تصاعد وتيرة الأحداث في سوريا، بدأ مسلسل القصف علی جبل التركمان بالصواريخ والطائرات الحربيّة، للاقتصاص من الصرخة التي أطلقها شبابه. ومع تصاعد وتيرة المعارك في جبل التركمان، بدأت تتشكل كتائب الجيش الحرّ وفصائله في المنطقة. ودارت معارك شرسة مع قوات النظام إلى أن تمكّن الثوار من تحرير الجبل في يوليو/تموز 2012.
بعد التحرير، ازداد القصف، ما أدى إلى تهجير 90 بالمائة من أهل الجبل. لكن أم يارا وزوجها وابنتَيهما صمدوا هناك رافضين الانسلاخ عن أرضهم. فعاشوا حياة بدائيّة بكل ما يعني ذلك من مشقات وخدمات معدومة وبنية تحتيّة مدمّرة، فلا ماء ولا كهرباء ولا غاز.
تعود إلى أم يارا تلك اللحظات. فتقول "كانت الحياة مزرية والبقاء انتحاراً. لكن سرعان ما استحدث شباب الجبل البدائل، وسارعوا إلی شراء المولدات للإنارة وضخ المياه من الآبار". تضيف: "استخدمنا الحطب لطهي الطعام وغلي الغسيل، واستعنا بالشمس لتحضير مؤونة الشتاء من الخضار. مع ذلك، لم يكن يصبّرني على البقاء سوى كلمات زوجي التي تدعوني إلى التماسك والابتسامات على وجوه المقاتلين عندما كنت أعدّ لهم الطعام". بقاء أم يارا وعائلتها في المكان، أعطى المقاتلين دفعاً معنوياً. واستمرّ الوضع على هذه الحال، إلى أن جاء ذاك اليوم الذي اشتد فيه قصف قوات النظام وبدأت قذائف الراجمات تسقط بكثافة على الطريق العام وفوق رؤوس المدنيّين. فسادت حالة من الهلع وعدم التركيز في الشوارع. ووقع حادث اصطدام بين دراجتَين ناريتَين، كان أحد السائقَين زوج أم يارا. فوافته المنيّة على الأثر. بقيت "سيّدة الجبل" وحيدة مع طفلتَيها تعاني مرارة الحياة في ظل غياب "المعيل والصديق والحبيب"، بالإضافة إلى قسوة المحيط الاجتماعي ولومه لها. وقد قيل لها في يوم: "لو أنجبتِ صبياً لكان وضعك أفضل. فقد أغلقت منزل زوجك حين حرمته الابن".
وتخبر أم يارا أنه "وبسبب ضغط المحيط الاجتماعي، لم تشأ عائلة أخ زوجي أن تتركني وابنتَي بين الأنياب. فأصرت أن ألحق بها إلى تركيا. هناك، عشت معها في البيت نفسه إلى أن انتهت العدّة، ثم انتقلنا إلى مدينة دورت يول في خليج اسكندرون، حيث عملنا كمدرّسين في مدرسة افتتحت خصيصاً للسوريّين". لا تحمل أم يارا شهادة جامعيّة، فهي توقفت عن الدراسة بعد نيلها شهادة الثانويّة العلميّة، إلا أنها تعشق تطوير ذاتها. فقد استغلت ملكتها في الكتابة الأدبيّة في خدمة الثورة السوريّة، ولها قصائد ثوريّة منشورة على موقع "يوتيوب". كذلك، تستعدّ لدخول عالم الصحافة من خلال جريدة محليّة جديدة ستصدر من الداخل.
لم يطل مكوث أم يارا في تركيا. وعادت إلى جبل التركمان بعد شهر ونصف الشهر. فهي لم تستطع أن تستنشق هواءً غير هوائه، واجتاحها الحنين. كذلك لم تحتمل وصفها باللاجئة. واليوم هي تعمل بكل قواها على مشروع يهدف إلى عودة المهجّرين إلى الداخل المحرّر. إلى ذلك، عرض عليها أحد الأقرباء إدارة مكتب جمعيّة خيريّة تقدّم المساعدات لأسر الشهداء والمعتقلين في الجبل. بالنسبة إليها، "أجمل ما في ذلك أني سأتواصل مع الناس وأقدّم لهم المساعدة التي احتجتها في يوم".