السيّارة الأولى تشبه الحبّ الأوّل. فيه شغف مجنون بريء. كنتُ أرسم ملامحها في مخيّلتي منذ سنوات المراهقة. وكانت على الشكل التالي: نوعها غولف، خمريّة اللون، مقوَدها عاديّ، فرشها أسود، وسريعة.
كنتُ على اطّلاع على خبرات الميكانيك، لأنّ أخي يملك محلاً لتصليح السيارات. نتحدّث يومياً عن أنواعها ومشكلات كلّ منها. أتذكّر لحظة دخلت يوماً وسألته إذا كان يعرف سيّارة خمريّة بالمواصفات المطلوبة، فضحك، وسألني: "لمن؟". فأجبته: "أريد شراءها". وفوراً بدأت عمليّة البحث المتعبة.
عندما كنتُ أذهب لرؤية إحدى السيارات، كنت أجد فيها عيوباً كثيرة، فتكون الإجابة أحياناً: "لم تعجبني سرعتها، لم أحبّ فرشها، لا يوجد فيها أربعة أبواب". كنت أقرّر الشكل وفي بعض الأحيان أقيّم السرعة، وأخي تولّى كل ما يخصّ الجانب الميكانيكي.
بعد مضيّ ثلاثة أشهر من البحث، ظنّ الأصدقاء أنّني أفتّش عن سيارة خارقة لا وجود لها. ففي حين يقتنع أخي بالمواصفات، يأتي دوري في الاعتراض على بعض التفاصيل. إلى أن اتّفقنا في النهاية على الشكل وعلى أن يكون "الميكانيك" جيّداً وألا يكون مصروف البنزين مكلفاً، وألا تكون باهظة قطع الغيار.
اتّصل بي في أحد الأيام طالباً منّي الذهاب إلى مكان معيّن لرؤية سيارة جديدة. أقفلت الخط، تركت عملي وخرجت مسرعة أركض على الطريق مبتسمة، وأحياناً حزينة، قد لا تكون السيارة "الحلم"، فأهدأ قليلاً. وصلتُ إلى المكان. لم تتوقّف عيناي عن مراقبة كلّ السيارات العابرة والمتوقّفة. كنت أبحث بينها كأنّها رجل الأحلام المجهول الهويّة، الجالس على إحدى الطاولات منتظراً اللقاء الأوّل. نظرتُ إليها من بعيد، احمّرت وجنتاي، وسمعتُ دقّات قلبي عندما رأيتُ أمامي تلك التي كانت مرسومة في مخيّلتي، وابتسمت. توجّهت نحوها بخجل وخوف من ألا تكون هي. تابعت السير.
نزل شاب من السيارة وناداني باسمي، فاكتملت فرحتي. نعم، هي التي حلمت بقيادتها منذ صغري. هي صاحبة اللون الخمري مع خطّين باللون الأبيض، وكأنّها تستعدّ للسباق. ركبت مكان السائق من دون استئذان، أمّا صاحبها فبقي واقفاً مبتسماً من عجلتي وفرحتي. تأمّلتها من الداخل، رفعتُ صوت الموسيقى عالياً، طلبت منه الصعود، أريد قيادتها. فلبّى الطلب. رحت ألفّ بها شوارع بيروت الضيّقة. عندما زدت سرعتها، سمعتُ صوتاً عالياً صدر من العادم، ما يدلّ على وحشيّة تزعج كلّ من يعترض طريقها، ناقل حركة يدوي، زجاج داكن، وجهاز إنذار. هاتفت أخي صارخةً: "هذه هي". فضحك: "أخفضي صوتك، لا تظهري اقتناعك بها، نريد التفاوض بالسعر".
حصلت عليها. نادراً ما تلتقي بالحبّ الأوّل وتجد فيه الصفات المطلوبة. ركنتها قرب المنزل، ورحت كلّ ساعة أخرج لأطمئنّ عليها. استيقظت في اليوم التالي عند الرابعة فجراً، خرجتُ لأتفحّصها، فقد كنتُ أخاف عليها كثيراً. وكلّما ركبت فيها أتفقّد حاجاتها وأدلّلها وأقبّلها. وعند عودتي من العمل، كنتُ أخبرها يوميّاتي.
ضحك أصدقائي عند رؤيتها، مستغربين اقتناء فتاة هذا النوع من السيارات الشبابيّة. حتى أنّ رجل الأمن الخاصّ بالشركة بات يعرف صوتها من بعيد. صوت بات يضحك الحارس فما عاد يفتّشها... هكذا تعلّقت بها، أصبحت "غولفتي" طفلتي المدلّلة.
كانت الغولف تفاجئ الجميع عند مرورها. وصديقاتي رحنَ يختبئنَ ليمازحنني، تحت المقعد، كي لا يراهنّ أحد، على اعتبارها سيارة رياضيّة بامتياز. لا أدري لماذا كان ركوب فتاة سيّارةً رياضيّة يدعو إلى الخجل.
وسريعاً حلّ اليوم الذي سأستبدلها بأخرى. كنتُ أخاف من هذا اليوم. أريدها أن تبقى قربي على الرغم من اقتناعي بضرورة تغييرها. كم تمنّيت في ذلك الوقت لو أنّني أملك مبلغاً إضافياً لأبقيها معي وأشتري الأخرى.
السيّارة الأولى تشبه الحبّ الأوّل، لا تُنسى. اليوم، سيّارتي القديمة مركونة أمام منزلي القديم حيث وُلدت لأنّ جارتنا اشترتها. في ذلك الشارع، تركت كنزيْن، طفولتي وطفلتي.