سيناء.. نتغنى بها ونظلمها

28 أكتوبر 2014

المفاجأة ستكون كبيرة عندما تتحرى أخبار سيناء بنفسك (Getty)

+ الخط -

يتحدث مصريون كثيرون، في منابر مختلفة، وفي فترات متفاوتة، عن ظلمٍ طالما طال شبه جزيرة سيناء وأهلها، لكن زيارة إلى هناك تكشف، سريعاً، أن الأمر أصعب كثيراً مما تتوقع، أو مما ينقله إليك الإعلام خصوصاً. كأن حظ هذه المنطقة أن يرتبط ذكرها لدى المصريين بعدم الاستقرار، فعبر سنوات مضت، كان الاحتلال الإسرائيلي لها، ثم بعد أن عادت إلى الوطن، كانت حفاوة العودة قاصرة على أغنيات موسمية، ووعود لم يتحقق منها حتى القليل، ليستقر الأمر، حالياً، على نسيان سيناء، إلا في أخبار عن تفجيرات دموية وعمليات عسكرية، دموية أيضاً!

مهما كان تصورك عن سيناء، فإن المفاجأة، غالباً، ستكون كبيرة، عندما تذهب إليها وتتحرى أخبارها بنفسك، بأم عينك وصميم قلبك. هذا ما حدث لي، عندما زرتها صحافياً، قبل شهور، وكانت المفاجأة الأولى أن أجد كثيرين من أهلها يستخدمون عبارة أبناء الوادي في مقابل أبناء سيناء.

كان أول من صدمني بهذه العبارة سيناوي، جلست إلى جواره في الحافلة المتجهة من القاهرة إلى العريش، وحاولت الاستفادة من رفقته، في استكشاف أحوال سيناء التي اعتدنا على وصفها بالجزء العزيز من مصر، لكننا لم نهتم، على ما يبدو، بأن نتحرّى ما إذا كان أبناؤها يشعرون منها بهذه المعزة أم لا.

ما إن تعبر الحافلة قناة السويس، وتتوغل في أرض سيناء، حتى تكتشف واقعاً مؤلما تتمثل أولى بداياته في أن "ترعة السلام" التي هللت لها السلطة، قبل عقود، وبشّرت بأنها ستنقل مياه النيل، وتساعد في استصلاح ملايين الأفدنة من أرض سيناء، سرعان ما تتوقف بعد كيلومترات قليلة، هذا إذا كانت المياه تجري فيها أساساً.

طوال الطريق، لا يمل جار الحافلة من الإشارة إلى أراض شاسعة، يمكن استصلاحها وزراعتها، إذا جاءت مياه النيل، ويقول صراحة إن "أبناء الوادي" لا يدركون كم الغضب والضجر الذي أصاب "أبناء سيناء" من خليط مأساوي، تنسجه أغان تتغزل بهم، ووعود تغرقهم، وفي الوقت نفسه، واقع لا يسمح بأبسط ضرورات الحياة.

الوضع الاقتصادي لغالبية أهل سيناء شديد البؤس، فالزراعة المستقرة مستحيلة لافتقاد المياه، والنشاطات الأخرى قليلة، حيث لا يوجد إلا مصنع وحيد للإسمنت، لا يستوعب من العمالة إلا قليلاً، كما أن السياحة القليلة تتركز في شرم الشيخ في جنوب سيناء، تاركة الشمال فريسة للفقر والعنف.

الخدمات شبه غائبة في مدن شمال سيناء، فما بالك بقراها، وحالة المدارس بائسة، بينما الجامعات الحكومية غائبة. ولذلك يضطر بعض الأهالي، كما قال لي أحدهم، للعمل في التهريب، أو زراعة المخدرات، قائلاً: إن هذا وضع طبيعي مع سلطةٍ لم تحفظ لأبنائهم حق التعليم، أو توفر لهم فرص العمل والكسب.

ليس هذا كل ما في الأمر، بل فيه ما هو أسوأ، وهو العلاقة المتوترة بين أهل سيناء والأمن طوال عقود، فما إن تجمعك جلسة خاصة مع سيناوي، حتى ينطلق ليحكي لك عن سوء المعاملة من الأمن الذي يفترض أن ابن سيناء مهرب أو مجرم بالضرورة.

تتواتر القصص بين من يحكي لك ذكرياته السيئة مع نقاط التفتيش، ومن يتحدث بحرقة عن عدم مراعاة لقيم البدو، تتمثل أحياناً في مداهمة المنازل وهتك ستر العائلات، بل، وأحياناً، اقتياد الأب والأم، إذا كان الابن المطلوب غير موجود.

وليس الحال أفضل عند عناصر الأمن الذين قدموا، بدورهم، من محافظات الدلتا، ويعدون الساعات حتى تنتهي خدمتهم في سيناء، إلى درجة أن أحدهم قال لي إنه إذا انتهت فترة عمله في تأمين الفندق الفخم في العريش فلا يمكنه الذهاب لقضاء حاجاته من وسط مدينة العريش، إلا بعد أن يخلع ملابسه الشرطية، تجنباً للمخاطر.

الشرطي قلق، والمواطن أيضا قلق، وإذا فتح السيناوي له قلبه، تفاجأ بأكثر من ذلك، فإن كان متقدماً في السن، فقد يغامر ويخبرك إن الخدمات والمعاملة في ظل الاحتلال الإسرائيلي كانت أفضل. ويقسم لك مستدركاً أنه لا يعني بذلك أنه يفضل الاحتلال، أو يحب الصهاينة، لكنها مفارقة إن أخفاها تألم، وإن خرجت في ساعة غضب، ظن الناس به شراً.

قالها لي أحد كبار السن متحسراً، ليلخص الوضع، معتبراً أن الإعلام في القاهرة جعل من ابن سيناء مجرماً أو خائناً، وعميلاً في الأغلب، إن لم يكن لإسرائيل فلحركة حماس أو لمحمد دحلان، أو لما تسمى الجماعات التكفيرية.

لا أنسى، أبداً، كيف ختم الرجل حديثه، قائلاً "لو كنا كذلك، لما كان هذا حالنا. لكن، المشكلة الحقيقية أن أحداً لا يأتي ليرى بعينيه ما نحن فيه من سوء حال".

731A1904-9BFF-4198-B7D2-EDAB8EAF9B68
أنس زكي

صحفي مصري، درس العلوم السياسية في جامعة القاهرة.