من بين المواضيع التي درسها علم النفس، تعد الدراسات التي تناولت الشعور بالضجر حديثة نسبياً، وعلى الرغم من أن أول دراسة معروفة وضعت عن سيكولوجيا الشعور بالضجر كانت عام 1889 وكانت بعنوان "قياس التململ" لكن هذا الحقل لم يلفت إليه الانتباه كثيراً. لكن هذا لا يعني أن الموضوع لم يشغل بعض الفلاسفة ومن بينهم نيتشه الذي كان يقول "من يحصن نفسه ضد الملل، فإنه يحصن نفسه ضد نفسه"، وشوبنهاور الذي رأى أن حياة الإنسان بندول يتأرجح بين الألم والملل، أما بودلير فوصفه بأنه أعتى الوحوش. تاريخياً، كثيراً ما ارتبط الملل دائماً بالعبقرية والإبداع، وكثيراً ما صرح موسيقيون ومبتكرون أن ما قدموه من أعمال فنية ملهمة كانت بدافع السأم.
لكن النمو الحقيقي لدراسات الملل كانت مع بداية الألفية الثالثة، ومن أبرز المشتغلين على هذا الجانب اليوم عالما النفس جيمس دانكيرت الأستاذ في جامعة واترلو، وجون إستوود، الأستاذ في جامعة يورك، وقد التقى الاثنان على اهتمام شغلهما لسنوات وهو دراسة الملل، وصدر لهما حديثاً عن منشورات جامعة هارفارد كتاب بعنوان "خارج جمجمتي: سيكولوجيا الملل".
يرى المؤلفان أن الملل ليس سيئاً بالضرورة، لكن السيئ أننا لا نستجيب بشكل جيد لتوجيهات الملل، فالحقيقة أننا عندما نشعر بالملل، فهذه هي الطريقة التي تخبرنا بها عقولنا أن كل ما نقوم به ليس مُرضياً، وأننا فشلنا في تلبية حاجتنا النفسية الأساسية للمشاركة والفعالية. لكن ما يقوله الكاتبان إن الملل يمكن أن يشتغل كمحفّز نفسي نحن بحاجة إليه، وفي الحقيقة إن دانكيرت ذهب إلى ما هو أبعد من الدراسة السيكولوجية للملل، بعد أن تعامل مع أشخاص تعرضوا لحوادث مختلفة سببت لديهم إصابات في الدماغ، ولجأوا إلى العلاج النفسي لأنهم باتوا يشعرون بالملل أكثر بعد شفائهم من الحادثة مما كانوا يشعرون به قبلها.
اعتقد دانكيرت أن هذا الممل مرده إلى تغيير عضوي في وظيفة الدماغ وليس رد فعل نفسي، فوسع نطاق البحث في هذا السياق واستخدم تقنيات التصوير العصبي، إلى جانب الاستعانة بعلماء الوراثة لاستكشاف الأساس الجيني للملل، أما بالنسبة إلى إستوود فقد وضع عشرات الأبحاث التي تدرس علاقة الملل بالذاكرة، والشخصية، وتشتّت الانتباه، والتجربة العاطفية، والصحة العامة، والملل وعلاقته بالشعور بالزمن.
يأتي الكتاب في تسعة فصول هي؛ "الملل أياً كان اسمه"، و"عالم الاعتدال"، و"محفز التغيير"، و"الملل خلال رحلة الحياة"، و"تجربة لها تبعات"، و"الملل في أشد حالاته تطرفاً"، و"البحث عن معنى"، و"حين يصبح وبائياً"، و"سر مع التيار".
يرى الكاتبان أنه لا بد وأن الملل مفيد إلى حد ما من منطلق نفساني تطوّري، فإن أي جزء من تركيبتنا النفسية لا بد أنه قد ساعد أسلافنا بطريقة أو بأخرى على البقاء، وبحسب الكتاب "تخيّل لو أن أسلافنا لم يشعروا بالملل أبدًا أثناء الجلوس حول النار وهم يتغذون على لحم البقر، لا أظن أنهم كانوا ليكافحوا أبداً لخلق حضارة". على الرغم من ذلك، ربما يمثل الملل مشكلة أكبر وأكثر خطورة في المجتمع الحديث مما نعتقد، فنحن نشعر به حتى أثناء مواجهة قائمة ضخمة من الخيارات الترفيهية مثلما نفعل أمام التلفزيون مثلاً ونحن نقلّب القنوات باستمرار على غير هدى.
هل أدى الملل إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟
من جهة أخرى، قد تكون للملل آثار سياسية عميقة، يقول المؤلفان إن الأشخاص الأكثر عرضة للملل هم أكثر نرجسية أو عدائية "ويمكن النظر إلى بعض أشكال العدوان على أنها محاولات لعلاج غياب المعنى المرتبط بالملل". لذا فهم يعتبرون الملل - في وضعه الوجودي على أنه شعور بعدم معنى الحياة - كقوة دافعة محتملة وراء كراهية الأجانب مثلاً. ويطرحان أسئلة من قبيل: هل أدى الملل إلى خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي؟ إحدى الفرضيات التي يطرحها الكتاب حول سبب تصويت الكثير من الأشخاص لترامب وجونسون هو أن الناخبين كانوا يشعرون بالملل من عالم لم يكن يحدث فيه أي شيء يثير الاهتمام، فلماذا لا نصوت لرئيس من شأنه على الأقل أن يكون مسلياً؟
من السهل التفكير في الهواتف الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي كمسكّنات للملل بحسب الكتاب، لكن النتيجة تشبه ما يلفت إليه شوبنهاور "هذا هو المصدر الحقيقي للملل؛ اللهاث المستمر خلف الإثارة، من أجل الحصول على ذريعة لإعطاء العقل شيئًا يشغله".
والحقيقة إنها تؤدي إلى ما بات يعرف اليوم بـ "شلل الاختيار"، حيث يعجز الإنسان عن اختيار شيء يناسبه من بين الحجم الهائل للخيارات التي تضخّها وسائط التواصل الاجتماعي، وبالنظر إلى ذلك، فمن المعقول أن العالم اليوم يقوم عن طريق هذه الوسائط بتصنيع الضجر الجماعي عمداً من أجل الاستفادة منه لتوريط المستخدمين أكثر في سوق الوسائط هذا.