سيرة الأصوات في المدينة المنوّرة

12 مايو 2015
أسوار المدينة المنوّرة في بداية القرن العشرين
+ الخط -
تكدّست "سرديات التذكّر" عند أدباء المدينة المنورة عبر كتابة السيرة الذاتية بأشكال أدبية اختلفت بين مقالات ورحلات ومشاهدات، ونُفيد منها هنا بوصفها كتابات موازية لمدوّنات الرحالة، ويأتي فيها ذكر لفنون الأداء والقول والحركة، خصوصاً في أوائل القرن العشرين.

نلتفت هنا إلى شهادة محمد حسين زيدان (1909 - 1992)، أديب ومؤرخ عاصر أحداثاً مفصلية في القرن العشرين، وكتب 44 حلقة نُشرت في جريدة "عكاظ" بعنوان "طيبة: رحلة في الزمان والمكان"، ثم جُمعت في كتاب حمل عنوان "ذكريات العهود الثلاثة" وطُبع بعد أن غمره النسيان.

يتنبّه زيدان إلى تنوّع المكوّن الاجتماعي في المدينة المنورة فيذكر: "ويخضعني هذا إلى أن أجدول ساكن المدينة بالألقاب التي يحملها؛ تُرك من الأناضول، تركستان من تركستان، مغاربة، نجديون من القصيم الذين منهم عقيل وهو جيش قوة للحكومة، أما التجار الذين يبيعون المشالح (العباءات) والدخان العمايدي حتى المضير والعطور والعود. والصعايدة، فهم كثر وأغلبهم من أسيوط وقنا، وإن كان بعضهم من الفيّوم ويعدّون من جملة الصعايدة. ثم السادة العلويون جَمل الليل والصافي وبافقيه والحبشي والجفري والسقّاف ومن إليهم، والنخاولة في حوش السيد أو في الزقاق المعروف باسمهم، أما في العوال وقربان وقباء فهم النخليون يعملون بالفلاحة، وداخل المدينة ويعملون جزارين وخضرية".

إذن، لدينا مدينة تحفل بمجموعة من الأعراق والطوائف تكوّن فئاتها الاقتصادية والاجتماعية، وأدوارها الدينية والسياسية والعسكرية، وجماعات وظيفية تتوارث المهن والصناعات والحرف.

وتتشكّل تلك الأعراق بين الجذور الآسيوية والعرب النجديين والحضرميين، والجذور الأفريقية بالإضافة إلى أهلها من القرويين النخليين – وهم أخلاط متعددة تنتمي إلى الطائفة الشيعية. ويشير زيدان نفسه إلى أنه ابن لعائلة مهاجرة: "أبوه من صعيد مصر ومن أسيوط بالذات، وأمّه من الفضول من قبائل نجد".

ويذهب زيدان إلى توصيف العمارة في المدينة المنوّرة، فنجد الأحواش داخل الأسوار التي يخصّ بالذكر منها "سور السيد" الذي يعود لعائلة من "مزينة" وهم نخليون، وفقاً للكاتب.

يصف زيدان النساء وهنّ منتحيات "أمهات وبنات، يجتمعن بعيداً عن الرجال يتغنين بـ الرجيعي ويضربن الدفوف"، وفي وسط الحوش يجلس الرجال ولهم غناؤهم أيضاً. وفي إحدى حلقات هذه المذكرات والمعنونة بـ"الأئمة والمؤذنون"، يتحدث الكاتب عن الإمامة والأذان بوصفهما مهنة متوارثة ذات وجاهة، ومشروطة بتلبية المعايير، من ذلك تحديد مذهب الإمام أو المؤذن بحسب السلطة السياسية، إذ يضع زيدان مذكراته بين عهود ثلاثة: العثماني والشريفي والسعودي.

وفي حين تلتقي المهنتان في القدرة والخبرة، تفترقان في الوظيفة الاجتماعية، ولكل واحدة مجالاتها؛ فمن يقرأ القرآن ويتمتع بحسن التجويد والترتيل يؤهّل إلى الإمامة والأذان، وفي الوقت ذاته يؤهّل للإنشاد والغناء. أي أن الحنجرة هي مجال الأداء وهي التي تفعّل هذا الدور والوظيفة.

ويذكر زيدان مشاركة الإمامين أسعد توفيق وأخيه كامل توفيق - وهما من أسرة تركية شركسية - في قراءة القرآن في احتفال المدرسة الراقية عام 1921 بحضور أمير المدينة الشريف حسين بن علي. وينتقل منها إلى وصف مبارزة نغميّة بينهما والمؤذن البنّاني - من أصل مغربي - آنذاك ليبرّر الكلام عن الغناء وأصوله ومعلّميه، واختلاف جماعات الغناء وآلالتهم وفنونهم وبيئاتهم وأعراقهم، وارتباط فنون الأداء والقول والحركة بالفئات الاجتماعية.

يقول زيدان: "هناك إمامان ذاع لهما الصيت وأحب المصلّون أن يصلُّوا وراءهما ،لإتقان التجويد ولتجويد الإتقان بالصوت الجميل على النغم الموسيقي، هما كامل توفيق، وأخوه أسعد توفيق، (...) جمَّلهما الله بالوقار والصوت الحسن، فلعلّهما - قبل زكريا أحمد وعلي محمود - أتقنا سلّم الأنغام، فما أسعد الأذن إذ تسمع كامل وأسعد توفيق! وهما من أسرة تركية شركسية لهما حظ في وقف السلطانية، ولهما الحظ الأكبر أن كانا من أعيان المدينة وأحسن أئمتها".

 ولعل هذه السردية تزيد من قيمتهما بالاعتراف بالجذور العرقية (تركية شركسية)، والمكانة الاجتماعية (وَقْف السلطانية)، والموهبة الصوتية والخبرة النغمية (التجويد والصوت الجميل والنغم الموسيقي)، والمفاضلة المعيارية مع المركز المصري ممثلاً بالملحن زكريا أحمد والمُنشد علي محمود.

ينتقل زيدان في المقطع التالي إلى كشف المقدرات الأدائية، وخاصية التنافس بين المؤذنين والأئمة، ليمرر الكلام عن علوم النغم وأصحابه. فيقول: "وعن كامل وأسعد توفيق وسلّم الأنغام نذكر هذه الطرفة: كان البنّاني هو الذي يكبّر للصلاة، إذا كان الإِمام هو كامل أو أسعد توفيق.. فالطريقة هي أن البنّاني يخرج من نغم إلى نغم وهو يكبّر ليتحدّى كامل أو أسعد وهما يجهران بالقراءة لا يعجزهما أن يسيرا مع تحدّي البنّاني. كان ذلك شيئاً مطرباً ولكن أحسبه يخرج بهم عن أدب الصلاة لأن الإِمام والمؤذن مشغولان بتحري النغم، ولكن هكذا كان".

في المقطع التالي، يستعرض زيدان المعرفة الموسيقية ويروي ارتباطها بتقاليد في الحضارة العربية الإسلامية التي استوعبت داخل الثقافة العربية ثقافات آسيوية تعود إليها جذور عائلات المدينة المنورة، فيلفت إلى منقولات التراث الثقافي التركي المدمج في الحضارة العربية الإسلامية:

"من هنا قلت إن الغناء في المدينة المنورة قد تأثر بالسلّم التركي، فما من بيت من هذه البيوت إلا وفيه آلة الطرب العود، الكمان، أما خارج المدينة وفي الوطن وعند البادية فالربابة، وعند أولاد الحارة - الشلاوية والمشاكلة، وأهل الوديان حول المدينة - فيتقنون المزمار والبوحي، وهو صانع الجذب والهستيريا الراقصة حين يُقيمون "سيدي علي البدري" و"الزير" و"الزار" و"المزمار"، يعتقدون بتصريف الجنّ بهذه الحفلات، بينما هم يُمرضون أنفسهم بهذه الأوهام. هكذا كان ولكنه زال".

يُظهر لنا هذا المقطع حالة التراث الثقافي في المدينة من الفنون الأدائية والحركية والقولية والمعرفة الموسيقية المتوارثة، ويشير إلى الأثر التركي الذي سيدفع بالبعض إلى تلقي العلوم الموسيقية في تركيا مثل المغني أحمد شيخ. كما يعيد زيدان إلى الذاكرة حادثة سفر برلك المدينيين عام 1914، حين هجّر العثمانيون أهل المدينة وأخلوها من سكانها لتحويلها إلى ثكنة تركية، احترازاً من "الثورة العربية الكبرى" التي قامت بعد عامين.

وإن كانت فوارق الجغرافيا تتحكم في فنون أدائية وقولية وحركية، فإن لكل مكان فنونه التي تعيد التعبير عن المظاهر الاجتماعية والاقتصادية من خلال مناسبات تستخدم تلك الفنون وطقوسها.

دلالات
المساهمون