انخفض سعر صرف الليرة التركية أمام الدولار 17% حتى منتصف سبتمبر/ أيلول من هذا العام، لكن الانخفاض المجمَّع تجاوز قليلاً ثلث قيمتها منذ ربيع 2013، متدرجة من 1.75، إلى 3.07 ليرات مقابل كل دولار في 11 سبتمبر/أيلول الجاري، كأدنى سعر وصلت إليه منذ حذفت حكومة حزب العدالة والتنمية ستة أصفار من يمين الليرة التركية (لا يزال بائع الخبز يطلب مليون ليرة Bir milyon مقابل رغيف الخبز، أي ليرة واحدة بعد ذلك الإجراء).
أما في يونيو/ حزيران الماضي، صبيحة إعلان نتائج الانتخابات النيابية، فقدت بورصة إسطنبول حوالي 20% من قيمة الأسهم المدرجة فيها، كأدنى مستوى تصل إليه منذ سنوات.
كيف نفسر ذلك بأرقام اقتصادية، أو بمعطيات سياسية، وما أسباب هذا الانهيار أصلاً؟
من المعلوم أن انهيار العملة، أو تراجع سعر صرفها، تترجمه الأسواق ارتفاعاً مباشراً وسريعاً في الأسعار، أي حدوث ظاهرة التضخم بشكل أكبر من المتوقع، ما يعني انخفاضاً في القدرة الشرائية لأصحاب الدخول المحدودة خاصة.
قبل هذا، رسم مهندسو الاقتصاد التركي الطريق إلى التضخم بـ6% سنوياً فقط، واثقين من أن الاقتصاد الذي تجاوز نسبة 60% تضخماً في عهود حكومات ما قبل حكم حزب العدالة والتنمية، قادر على الوصول إلى تلك النقطة التي وصل إليها في العام 2012، أي 9%.
على مستوى الأسعار الفردية، ارتفعت أسعار اللحوم عموماً بنسبة 20%، وسعر لحم الخروف بأكثر من 35%، بينما حافظت الخضار والفواكه على أسعارها السابقة نتيجة وفرة الإنتاج التي لبَّت حتى زيادة الطلب الناتجة عن موجات اللجوء إلى تركيا من سورية والعراق.
أما الارتفاع المحسوس أكثر فهو ما أشار إليه معهد الإحصاء التركي من أن منتجات الكحول، والتبغ، والمواد الغذائية، والمشروبات غير الكحولية، سجلت الارتفاع الأعلى بين المواد الاستهلاكية (13.55%).
عوامل نجاح الاقتصاد، في تحقيق تضخم أقل، متشابكة، أولاً: كون تركيا مندمجة في الاقتصاد العالمي، وثانياً: لأن الاقتصاد التركي دخل في دورة استنفاد فرص النمو إذا بقيت القوانين الاقتصادية دون تغيير. بالطبع، هنالك عوامل خارجية أدت إلى ظاهرة التضخم المستورد، وتتعلق تلك العوامل بميزان المدفوعات مع أوروبا، وتراجع التجارة مع دول المنطقة المجاورة لآسيا الصغرى ما عدا العراق.
يضاف إلى ذلك وقوع تركيا في منطقة مضطربة سياسياً وقعت في قلب ثورات الربيع العربي، وخصوصاً الثورة السورية، مع تداخلات عودة التأزم بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني في الشهور الأخيرة.
كان التضخم السنوي يسير كما أراد له اقتصاديو حزب العدالة والتنمية في نهاية عام 2014 إلى 7.14%، لكن ذلك كان أعلى من المستهدف في نهاية 2015، أي (5 – 6.7)%.
وربما كان معدل النمو المتناقص إلى 2.9%، من 8.2% في 2011، هو السبب الذي تترجم تضخماً وانخفاضاً في سعر الليرة، بدوره، معدل النمو المتناقص أدى إلى انخفاض في معدل التشغيل.
اقرأ أيضاً: الليرة التركية تهبط إلى مستوى قياسي جديد أمام الدولار
الشهير بين المحللين أن العامل الأول في تراجع سعر صرف الليرة هو الحدث السياسي الداخلي التركي، أو المحيط بها من الجهة السورية.
العامل الثاني هو تكلفة الدين الخارجي المقوم في غالبيته بالدولار، والفشل في زيادات الصادرات التي ظلت معتمدة على أوروبا واليورو الضعيف.
في العادة، تراجع قيمة العملة يترافق بزيادة أكبر في الصادرات يؤدي إلى دفع عجلة النمو. ما حدث في تركيا أن انخفاض العملة أدى إلى رفع مخاطر الاستقرار المالي، كون الشركات تتعامل بالليرة، وتدفع ديونها بالدولار.
العامل الثالث هو النفط، الذي ارتفعت أسعاره بالليرة التركية أكثر بكثير منها بالدولار.
نتيجة ذلك كان الرابح الوحيد هو لوبي الفوائد الشهير في تركيا.
أما سبب ذلك فهو الثقة المسرفة، حتى الآن، من اقتصاديّ الحكومة بمعدلات البطالة المتناقصة (9.3% في الفترة من نيسان إلى حزيران 2015)، وتغني البنك المركزي التركي باستقلالية قراره في تحديد معدل الفائدة، في إشارة إلى أن انخفاض الليرة التركية يعود فقط إلى الأزمة السياسية في البلاد.
حتى وزارة الاقتصاد التركية تبدو غير قلقة من هذا الوضع. يقول وزير الاقتصاد، نهاد زيبكجي: "يجب التزام الهدوء. الأسواق ستجد التوازن".
هنا، لابد من التوسع قليلاً في شرح كيفية حدوث التضخم المستورد (Pass through)، فالميزان التجاري التركي كان يميل منذ منتصف عام 2013 نحو تسجيل عجز متزايد، ما جعل إقبال المستثمرين على الليرة التركية يتراجع.
هذا الأمر أدى إلى ازدياد عجز الميزان التجاري ( أكثر من 60 مليار دولار)، وإلى ارتفاع تكاليف فاتورة الوقود، كون تركيا تستورد 90% من احتياجاتها من النفط والغاز من الخارج. وأسعار المشتقات النفطية لا تزال في المستوى نفسه عندما كان سعر برميل النفط الخام في حدود 100 دولار.
تلك الثقة من البنك المركزي التركي، في إصراره على عدم رفع سعر الفائدة، لا تبدو منطقية بالمقارنة مع الأرقام، كون البنك لا يمتلك من النقد الأجنبي سوى 42 مليار دولار، وهو ما يغطي شهرين من الواردات فقط، في الوقت الذي يحتاج فيه البنك هذه الاحتياطيات لتمويل العجز في ميزان المدفوعات، ولأغراض التدخل في سوق الصرف الأجنبي للدفاع عن الليرة التركية.
من ناحية ثانية، فإن إجمالي ديون تركيا الخارجية كبيرة، وتزيد حالياً على 420 مليار دولار.
من كل ما سبق: الليرة وقعت فريسة الديون والعجز في ميزان المدفوعات، وهو ما يفسر الانهيارات في قيمتها مترجمة إلى تضخم، حتى لو لم يكن هذا الانهيار، وهذا التضخم، جامحاً، حتى الآن.
بمعنى آخر، وصل الاقتصاد التركي إلى صيغة "لكل شيء إذا ما تمَّ نقصان"، وعليه أن يجد بدائل أخرى للتعامل مع الأزمة، بما في ذلك اجتراح سياسات اقتصادية جديدة، وإحلال خبراء محل خبراء.
(كاتب وصحافي سوري)
اقرأ أيضاً: تداول الليرة التركية في المناطق المحررة يهبط بالعملة السورية