سوق المثلث الحدودي
تمتد السوق التاريخية بطول عشرات الأمتار عند مدخل قضاء حاصبيا، أقصى جنوب لبنان، ويعود تاريخه إلى فترة الحكم الشهابي، حيث استخدم كمكان للراحة أثناء السفر بين لبنان وسورية وفلسطين. مع مرور الزمن، تحول الخان إلى "سوق الخان" مع لقاء التجار المسافرين بين شمال فلسطين، وريف دمشق، وجنوب لبنان. يذكر سامر مرافقة جده إلى السوق كل يوم ثلاثاء لمقايضة المنتجات المنزلية بأخرى يصنعها أبناء القرى المجاورة. "كان جدي ينقل المزروعات المنزلية من عنب وكرز ورمان على الدواب إلى السوق، لمقايضتها بالفخار الذي ينتجه أبناء القرى الدرزية في سورية، والمواشي التي أتى بها التجار الفلسطينيون معهم".
نمت "سوق الخان" وتوسعت، وباتت محطة أسبوعية تربط طبقة التجار في البلدان الثلاثة مع أهالي القرى. تعلق في ذاكرة سامر بعض الأحاديث والتعليقات على التطورات السياسية، التي رافقت المنطقة، التي أصبحت محتلة فيما بعد. مع بدء حركة الهجرة اليهودية إلى فلسطين، نقل التجار الفلسطينيون أخبار مناطقهم وعلقوا بأحد الأمثلة "الخاروف بس تكبر ليتو، بصير يناطح خيالو". حذر التجار يومها من خطر اليهود على المنطقة ومحاولتهم التوسع.
حل الإحتلال وطال التقسيم كل شيء في المثلث الحدودي حتى سوق الخان. حافظت السوق بالشكل على موعدها الأسبوعي، وظلت تجمع أبناء القرى السنية والشيعية والدرزية على المقايضة ومناقشة تطورات الأوضاع. لكن غياب التجار السوريين والفلسطينيين قلص حجم الحركة التجارية، وكمية الأخبار المتداولة.
التسوق تحت الاحتلال
"حاول الاحتلال قتل الخان وفشل"، يقول حسين التاجر، الذي ورث "بسطة" جده لبيع الأدوات المنزلية في السوق. قطعت قوات الاحتلال الإسرائيلي وعملاؤه اللبنانييون المناطق الجنوبية بالحواجز الثابتة والمتحركة، وبات الوصول إلى السوق من القرى المجاورة يستغرق ضعف الوقت. يقول حسين إن قوات الاحتلال كانت "تتعمد تخريب البضاعة أثناء التفتيش لإرغامنا على مقاطعة الخان". يتحدث حسين عن الخان كملتقى لا كسوق: "نقل أبناء القرى المجاورة تجربة الخان، فتنقلت الأسواق الأسبوعية في مختلف مناطق الجنوب، الإثنين في النبطية، الأربعاء في راشيا، الخميس في مرج الزهور، والجمعة في مرجعيون، لكن الخان بقيت الملتقى الأكثر تأثيراً في المحيط".
بعد الحرب: أين الدولة؟
عاش لبنان حرباً أهلية امتدت من عام ١٩٧٥ حتى عام ١٩٩٠، ظلت فيها "سوق الخان"، مثل منطقة مرجعيون، بعيدة عن الاقتتال الطائفي والمذهبي. قلصت سنوات الحرب حجم الحركة التجارية مجدداً، كما فعل غياب التنمية عن المنطقة بعد تحرير أغلب الجنوب اللبناني في عام ٢٠٠٠.
تطورت حركة السوق بعد التحرير، بحسب عضو اتحاد بلديات العرقوب، الدكتور علي الخطيب، فـ"انتعشت السوق مع عودة عشرات الآلاف من أبناء القرى المحررة إلى مناطقهم، وزيارة المغتربين للمنطقة، وباتت المواسم والمناسبات تحدد حركة السوق، أما اليوم فتقتصر السوق على حركة بسيطة نتيجة اللجوء السوري والأوضاع الاقتصادية السيئة".
في السوق: سورية و"داعش"
يحضر أبناء القرى المجاورة إلى السوق بسياراتهم في أوقات متفرقة خلال اليوم، وتتوزع السيدات سريعاً بين "البسطات" للتضبع. تتجاور السيدات الدرزيات باللباس التقليدي مع فتيات قرية جديدة، مرج عيون، بالملابس الحديثة. تلتقي سيدات العالمين المختلفين على البسطات المتنوعة، وتتنوع ألوان المساومات حول الأسعار بتنوع اللهجات. يتحلق الرجال عند مدخل السوق للحديث عن آخر التطورات السياسية في المنطقة. يسأل أبناء راشيا الدروز، أهل العرقوب السنة، عن حقيقة "تواجد عناصر من (داعش) في مناطقهم، في المقابل يسأل أبناء الهبارية جيرانهم الدروز عن "الأمن الذاتي والتسلح وقتال الدروز في سورية".
تنتهي الحوارات بنفي متبادل للتساؤلات، وينتقل الجميع إلى الموقع المخصص لذبح المواشي وشيها. يصطف الجزارون هناك تحت قناطر جديدة، استحدثتها البلدية في محاولة لإعادة إحياء السوق. يكسر الجميع هناك الأجواء الطائفية من دون أن يدرون. تتناول الأسرة السنية الطعام عند اللحام الدرزي، ويختار رب الأسرة المسيحية جاره الشيعي لذبح الخاروف، وهكذا يتشارك أبناء القرى طعام الغذاء بعيداً عن "غبار السياسة".