فيلمان سوريان عُرضا في الدورة الـ51 لمهرجان "رؤى الواقع"، بنسختها الافتراضية (بسبب "كورونا")، المُقامة بين 17 إبريل/نيسان و2 مايو/أيار 2020. فيلمان يختلف أحدهما عن الآخر، أسلوباً وتعبيراً عن شقاء السوريين ومعاناتهم، منذ بدء الحرب السورية.
ينطلق "بحر أرجواني" (2020)، للسوريين أمل الزقوط وخالد عبد الواحد (مسابقة الفيلم الطويل)، من صُوَر التقطتها أمل في قارب اللجوء، عن غرقٍ في البحر، وناجين بستر إنقاذ برتقالية اللون، ينتظرون النجدة. هناك صوت يصاحب التجربة المروّعة، من دون أنْ يرويها تماماً. لا وجوه، بل مياه زرقاء تطوف فيها أجساد. لا حوار، بل صرخات استنجاد تُطلق، بين وقت وآخر، كبديل عن صوت الراوية، الذي يسرد ـ بنبرة هادئة ـ شذرات من حياتها. هي هنا، أمل صانعة الفيلم، في تجربة أرادتها ذاتية، تُعبّر عن مشاعرها وخواطرها في لحظات مصيرية من وجودها، مع مواجهة الموت غرقاً في قارب بطابقين، يقلّ مهاجرين من تركيا إلى الجزيرة اليونانية "ليسبوس".
"اليوم كتير حلو"، فالشمس قوية والبحر أزرق، تتفاءل الراوية. لكن، هناك صرخات رعب تسخر من تفاؤل ساذج، ولون برتقالي يطغى على هذا الأزرق، ومَشَاهد تعكّر الصفاء الهش، وأصابع بخواتم تتحرّك في الماء محاولة التمسّك بشيء، وقميص، وجزء من معطف، وساقان يرتديان جينز أزرق تلبطان، ورؤوس بشعر أسود تطفو، وكاميرا تصوّر هذه الحركات اليائسة تحت الماء لأجزاء من أشخاصٍ يستنجدون وينتظرون وصول الإنقاذ. لا مَشَاهد لموتٍ أو موتى، بل لرعبٍ تبثّه أصوات مستغيثة في بحر أزرق ويوم مشمس.
تُكمل الراوية، من دون وجه دائماً، حكاياتها بالنبرة نفسها. تخاطب الحبيب، وتسأله: "أتفكّر بي؟". تخبره أنّها كانت تتعلّم اللغة الألمانية للالتحاق به، وتشاهد مسلسلات سورية قديمة على الفيديو، وتُعلمه عن الكاميرا التي تسجّل هروب أناسٍ، وتسديدات قناص، وانهمار قذائف على بيوت، وتغلغلا كيميائيا في كلّ شيء. لم تردْ الراوية لمن تُخاطبه أن يرجع. هي ستلحق به، وستستقلّ الزورق، وتربط الكاميرا برسغها، وتصوّر له الرحلة. تتكرّر الصُوَر، لكن في كلّ مرة هناك تفصيل: حزام ينفلت، "بوط" متمسّك بأقدام صغيرة مُثيراً دموعاً وحزناً لا يطاق. كأنّ الصغيرة لبسته خصّيصاً برحلة أمل بمستقبل جديد.
تتخيّل الراوية مستقبلاً مُشرقاً: إنّها في برلين، والحبيب معها رفقة ابنة تحمل اسمها. القارب يتكسّر بعد أقلّ من ساعة على انطلاقه. تقفز في البحر، وفي عتمته ورائحة مياهه المالحة، وفي أصوات تطلب النجدة، والمروحية تهيّج الموج أكثر حولهم، وتصوّرهم. أين ستنتهي هذه الصُوَر؟ أخبار عادية أو عاجلة؟ لاجئون هم أو مجرمون أو ضحايا أو أرقام؟ تتساءل الراوية بغضب هذه المرة.
التقطت الكاميرا كلّ ما لا تراه عين صانعة الفيلم، وجزءا بسيطا مما تراه على السطح. لم تُظهرْ نفسها، ولا وجه أحد. لم يكن مقرّراً لهذه الصُور أنْ تُصبح فيلماً، بل تجربة شخصية. لكن أمل الزقوط، بمساعدة شريكها المخرج السوري خالد عبد الواحد ("الباحة الخلفية، باك يارد"، 2018)، صنعت من الصُوَر فيلماً، متمكّناً في ربط المشاهد بعضها بعضا، وهي مشاهد مؤلمة وجارحة بواقعيتها، مع سرد شاعري، فيه حنين ووجع واستسلام وثورة.
أما "لمُّ الشمل" (2020) لميرا جرغيل (زاوية واسعة)، فروى الواقع بأسلوب مباشر وعملي، لسرد قصّة عائلة سورية تشتّت أفرادها في 3 بلدان. يُلقي ضوءاً على معاناتهم اليومية، وخضوعهم للإجراءات الإدارية في بلدان الشتات. يطرح قضية من دون الذهاب بعيداً في فهم مسبّباتها، فلا يتناول أسباب تفرّق أفراد العائلة هكذا. فهل هذا لخشية الصغير ركوب المركب، كما قالت الأم سريعاً؟ أم لأنّها كانت تظنّ أن مدّة الغياب لن تتجاوز 3 أشهر، فإذا بها تمتدّ إلى 30 شهراً؟ تناول الفيلم سريعاً هاتين العبارتين، غير الكافيتين لتبرير التشتّت.
الصورة الدعائية للفيلم، التي تظهر في أحد مَشَاهده كصورة داخل صورة، مُعبّرة تماماً عن سعادة عائلة، وعن سورية "ما قبل"، حيث يقف الأب إلى جانب سيارته، التي تستقلّها الزوجة والولدان. وجوه مبتسمة تعكس أحوال بلد في وقت ما. صورة مُوفّقة تمهّد لحالٍ لم تدم، ولمقارنةٍ بين الماضي والحاضر، والمستقبل ربما. فالأب في كندا، والأم في الدنمارك، والولدان في تركيا. الجميع يعانون وضعاً غريباً كهذا.يتنقّل "لمّ الشمل"، بانتظام وتسلسل، بين القارات الثلاث، بدءاً من الدنمارك، ثم تركيا فكندا، في حلقة مغلقة. يعكس ملامح من الحياة اليومية للعائلة، ولأبوين طبيبين في حلب. في نهاية تصوير الفيلم، يبلغ الولدان 11 و17 عاماً، ويصعب عليهما العيش بمفردهما في هذه السنّ، مع أنّهما يتدبّران أمرهما جيداً، كما يبدو. نضجا قبل الأوان، بالمفهوم السوري لـ"قبل الأوان"، إذْ يعتمد الأولاد كثيراً على آبائهم. ظروف الحياة أجبرتهما على ذلك، وغيّرتهما. يتحدّثان إلى والديهما عبر الـ"نت"، ويشعران بوحدة وخوف وقلق، يُعبّر عنها الصغير بكلامٍ، والكبير بامتناعٍ عن الكلام غالباً. نادراً، يستعيد ذكريات حلوة في سورية، أيام الجمعة مع اجتماع العائلة في حلب: "أين أصبحنا الآن؟"، يتساءل والدمع في عينيه. في مشهد آخر، أفضل من سابقه، يُعبّر الصغير ببساطة عن عنصرية تركية تجاهه، إذْ لا أحد من أولاد الجيران يلعب معه بالطابة، فيلعب وحده. هناك صبيّ تركيّ أراد مشاركته، لكنّ أمّه ردعته بكلماتٍ لم يفهم منها سوى كلمة "سوري". مَشاهد كتلك أكثر تأثيراً، أخرجت الفيلم من روتين الأوراق والمُعاملات.
الوالدان يكتشفان الغرب، ويتصادمان مع صعوبات إدارية مفاجئة لهما في المنفى. يتابع الفيلمُ الأم عامين ونصف العام (مدّة التصوير). منذ وصولها، تبدأ بمتابعة إجراءات لمّ الشمل، والتأقلم مع الحياة الجديدة، والسعي إلى إيجاد عمل. مشاهد الأم مُكرّرة، لكنها لم تكن أكثر تأثيراً، لتركيز المخرجة على الإجراءات الإدارية وتبيان تعقيدها، وهذا جيّد. لكنّها لم تُتح مجالاً للصمت والتأمّل، للتعبير عن معاناة عائلية.
يفشل الأب في المعاملات، فيُكرّر المحاولة. يشعر بخيبة أمل وحزن لعدم تمكّنه من العمل كطبيب، فيعمل في محلّ للمعجنات. استعانت ميرا جرغيل بصُور قديمة للعائلة وبلقطات فيديو للتعبير عن سعادة ماضية، وعن أهمية هذا الماضي للأسرة في ضمان تماسكها وصبرها في الحاضر. فالأسرة ملجأ عاطفي، لا سيما للأب الذي لم يرغب في رؤية صُور جديدة لعائلته، لتعلّقه بصورة كلّ واحد منهم كما تركه. بالنسبة إليه، التاريخ واقف عند تلك اللحظات، وهو لا يريد معرفة التغييرات الطارئة على الجميع: كيف يفعل، وهو لم يشهدها يوماً بيوم؟