سوريون كثر فرّوا من الخدمة العسكرية وآخرون لم يلتحقوا بها في الأساس. اليوم، بعد أشهر على إعلان النظام السوري العفو في هذا السياق، عاد بعضهم إلى تلك الخدمة مرغمين.
بعد خمسة أعوام من الفرار من الخدمة العسكرية في سورية، عاد عماد ليلتحق بها. انتظر طويلاً أن تُحَلّ الأزمة السورية، من دون جدوى، في حين قضى أيامه في قلق دائم وفي ما يشبه الاعتقال في منطقة سكنه. ويقول إنّه عاد ليلتحق بالقوات النظامية بعد العفو الذي أصدره الرئيس السوري بشار الأسد في نهاية العام الماضي، "لكنّ شيئاً لم يتغيّر في المؤسسة".
يخبر عماد الذي يؤدّي خدمته اليوم في قطعة عسكرية غير تلك التي خدم فيها سابقاً "العربي الجديد": "في البداية، لم تكن القطعة العسكرية التي أُلحِقت بها مقاتلة، وكان يترأسها ضابط جشع وفاسد. كنت أشتري إجازتي بالمال، بالإضافة إلى ما كنت أحضره له ولبعض الضباط الآخرين كلّما عدت من إجازة، من فاكهة وحلويات وألبسة في بعض الأحيان لهم ولزوجاتهم وأطفالهم". يضيف أنّه "كلما كانت الأزمة تشتد كانت طلباتهم وابتزازهم تتزايد. لم أعد أطيق ضغطهم، وفي خلال آخر حديث مع الضابط المسؤول، قال لي: إذا كان الوضع لا يعجبك، اذهب وانشقّ. في ذلك اليوم، ذهبت في إجازة ولم أعد". يتابع عماد: "ظننت أنّ ما حدث في البلد قد غيّرهم وغيّر أسلوب التعاطي مع العسكر. لكنّني عندما عدت قبل أشهر للالتحاق بالخدمة، وجدتهم أسوأ ممّا كانوا".
ويعرب عماد عن استغرابه من "إصرار النظام على بقائنا في الخدمة. هو يتحمّل تكاليفنا من لباس وطعام ورواتب ونحن لا نفعل شيئاً غير إمضاء أيامنا في تلقّي دروس عسكرية بسيطة وأخرى حول حزب البعث العربي الاشتراكي، تأسيسه ومبادئه وثورته. الضباط المشرفون على تلك الدروس قالوا لنا صراحة إنّ ما يقدّمونه لنا ليس مهماً، غير أنّهم مجبرون على ذلك ونحن من جهتنا مجبرون على الالتزام به. وهذا ما يجعل كلّ شيء أشبه بمسرحية يومية، في انتظار أن يحين موعد الإجازة. وهكذا تمضي الأيام". ولا يخفي عماد أنّه ينتظر قرار تسريحه بفارغ الصبر، بينما يبحث عن فرصة سفر إلى بلد آخر يكمل فيه حياته، مشيراً إلى أنّه لن يفكّر يوماً بالعودة إلى سورية في حال سفره.
من جهته، التحق يسار بالخدمة العسكرية من جديد في بداية العام الجاري. يقول لـ"العربي الجديد": "في خلال خدمتي الأولى، أصبت ثلاث مرّات، وفي كلّ منها كدت أفقد حياتي. وفي المرّة الأخيرة، عندما كنت في المستشفى قرّرت عدم العودة إلى الخدمة بسبب سوء المعاملة. لم تكن لإصابتي ولا لحياتي أيّ قيمة. كان ذلك في عام 2014". يضيف يسار: "لكنّني عدت أخيراً، لأنّني لا أملك أيّ خيارات أخرى. وآمل أن يشملني قرار تسريح، خصوصاً أنّه في خلال فترة العفو، كانت ثمّة أحاديث عن احتمال تسريح من هم في مثل سنّي. بعد أشهر، أنهي عامي الخامس والثلاثين".
يتابع يسار: "خدمتي اليوم على الخطوط الأمامية في ريف اللاذقية، ومن المفترض أن أحصل على مبلغ مالي يُضاف إلى راتبي لتأمين طعامي. لكننّنا حتى هذا اليوم، بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على التحاقي بالخدمة، لم أتسلم بعد أيّ راتب، وأحتاج في الشهر ما لا يقلّ عن 50 ألف ليرة سورية (نحو 100 دولار أميركي) من أجل تأمين احتياجاتي. لولا مساعدة عائلتي، كنّا متنا من الجوع أنا وزوجتي وطفلي. لا أعلم إلى متى أتمكّن من تحمّل هذا الوضع". ويلفت إلى أنّه لا يستطيع أن يقضي إجازته مع عائلته في كلّ مرة، "بسبب ارتفاع تكلفة النقل. وهو ما يضطرني إلى طلب إلغاء الإجازة في بعض الأحيان".
أمّا جمال، فقد خسر دراسته الجامعية قبل عامَين، بسبب عدم تمكّنه من الحصول على تأجيل للخدمة العسكرية بعد رسوبه للسنة الثانية. لكنّ عدم قدرته على العمل بسبب ملاحقته، اضطره إلى الالتحاق بالخدمة. يقول لـ"العربي الجديد" إنّ "المعاملة سيئة جداً، ونحن نُتّهَم دائماً بأنّنا تخلّفنا عن الدفاع عن الوطن، فأشعر بأنّهم ينتقمون منّا خلال التدريبات أو العقوبات شبه اليومية". يضيف جمال: "عند التحاقي بالخدمة، كان من الصعب عليّ أن أقول للضباط المسؤولين عن الدورة سيدي. كنت أستعيض عنها بكلمة سيادة العقيد أو المقدّم بحسب الرتبة. لكنّ أحدهم عاقبني في مرّة بقسوة طوال الليل، وأجبرني على قول سيدي. حينها شعرت بالانكسار".
في سياق متصل، يقول مصدر معارض في دمشق، طلب عدم الكشف عن هويّته لأسباب أمنية، لـ"العربي الجديد"، إنّ "النظام السوري اليوم يظنّ أنّه قائم على ركيزة أساسية تثبت وجوده وهي الأسد والقوات النظامية، بغضّ النظر عن الواقع المتردّي لمؤسساته كلها. بالنسبة إليه، القوات النظامية خطّ أحمر، لذلك يصبّ كلّ جهوده لتثبيت سطوتها على ما تبقى في مناطق سيطرته، فيجبر المتخلفين عن الخدمة والفارين منها إلى العودة إليها، ويمارس عملية قهر للشباب من أجل تدجينهم.