11 نوفمبر 2024
سورية والحل الروسي: عن التسوية الأخطر من الحرب
يشكل توحيد موقف المعارضة السورية وإعلان إنشاء الهيئة العليا للتفاوض في مؤتمر المعارضة السورية في الرياض، 8-9 ديسمبر/ كانون أول الجاري، خطوة كبيرة على طريق الدخول في مفاوضات محتملة مع ما تبقى من النظام، بمقدار ما تنزع ذريعة أساسية من الذرائع التي كان يستخدمها حلفاء الأسد في طهران وموسكو، من أجل تبرير رفضهم أي حل سياسي. لكنها حتى لو تم "إصلاحها" بإضافة بعض الشخصيات "المعتدلة جداً"، حتى لا نقول المعادية للثورة أصلاً، كما تريد موسكو، فلن يتغير الوضع كثيراً ولن تكون، لا هي ولا النظام، طرفاً مهماً في الحل. بل على الأغلب، كما أظهرت التطورات الأخيرة، ألا تكون هناك مفاوضات حقيقية أبداً، أو ألا يكون دور مائدة المفاوضات التي سيجتمع من حولها السوريون، إلا ذريعة لتمرير التسوية الدولية التي تطبخها الولايات المتحدة بهدوء، والتي تهدف إلى طي صفحة "الأزمة" السورية، مع الأخذ بالاعتبار ضرورة الرد على المخاوف والتطلعات الخليجية، والسعودية منها بشكل خاص، في ما يتعلق بمصير سورية ومصير المنطقة ككل، وبالجوهر بدور إيران الإقليمي.
بين المكابرة الكلامية والتسليم بالأمر الواقع
وعلى الرغم من بعض المظاهر التي تشير إلى العكس، لا توجد بين المقاربتين، الأميركية والروسية تناقضات، ولا حتى اختلافات عميقة. الهم الرئيسي لواشنطن، ومن ورائها أكثر فأكثر العواصم الغربية، أن تطمئن الرياض على موقعها في سورية، من أجل أن تلعب الدور الإيجابي الذي ينتظره منها الجميع، وروسيا أيضا. وتعتقد واشنطن عن حق أنها، بغياب أي إرادة في الانخراط من باراك أوباما، أن روسيا مفتاح الحل. وتشعر موسكو، منذ بادرت إلى التدخل العسكري المباشر، وركبت مخاطره، بأنها مكلفة من المجتمع الدولي بأكمله بهذه المهمة، أعني الخلاص من "الأزمة السورية"، وطي ملفها بأي ثمن، لقطع طريق التوسع غير المسيطر عليه للإرهاب العالمي، كما تشعر بأنها الوحيدة القادرة على تنفيذها بكل ما تتضمنه من أعمال قذرة، تستدعي القضاء على مزيد من المدنيين السوريين، في سياق كسر القوة الضاربة للجيش الحر، وإجباره على الاستسلام، وإجبار السوريين جميعاً، من وراء ذلك، على القبول المؤقت بحكم الأسد، والتخلي عن حلم الانتقال السياسي وتغيير النظام، وكذلك بما يقتضيه تنفيذها، أيضاً، من أعمال "إيجابية" تنطوي، بشكل رئيسي، على إقناع الرياض وطهران بتخفيض سقف مطالبهما للتوصل إلى تسوية توقف القتال في سورية، وتعيد توحيد الدول الإقليمية، تحت قيادة روسيا، حول مهمة الحرب المقدسة ضد الإرهاب واستئصال داعش والمنظمات الجهادية السنية، ما سيشكل برهاناً ناصعاً على عودة موسكو المدوية إلى ساحة السياسة الدولية.
ومن الواضح أن الأمم المتحدة ليست بعيدة عن المصادقة على هذا التكليف، ولا تجد فيه ما يناقض رسالتها، بعد أن عجزت عن القيام بأي دور لحفظ حياة المدنيين، ووقف القصف بالبراميل المتفجرة، ووضع حد لحصار التجويع والموت البطيء الذي يعاني منه ملايين السوريين. ولا يقوم ممثلها، ستيفان دي ميستورا، بشيء آخر سوى انتظار نتائج الخطة الروسية لتمهيد الأرض ليبدأ عمله، تحت شعار بدء مفاوضات سورية سورية، تستكمل التسوية الإيرانية الخليجية، وتكون ملحقاً مرتبطاً بها. وفي هذه الحالة، لن يحتاج المبعوث الدولي إلى عبقرية كبيرة، حتى يستطيع أن يكيف مطالب المعارضة السورية، بعد أن جرّد لحمها عن عظمها، مع مطالب التسوية الإقليمية، وأن يقنع السوريين بأن الحصول على عظمة مبلولة بمرق السلام والديمقراطية الانتخابية، وبوعود إعادة الإعمار أفضل من البقاء في العراء، تحت نيران القنابل الحارقة والصورايخ الباليستية والمجنحة، القادمة من البر والبحر والجو. باختصار، ما سيقال للسوريين إن من الأفضل لكم أن تحافظوا على حياة ما تبقى من أبنائكم، بدل دغدغة أحلام الحرية والتعلق بأوهام الثورة وقيم الكرامة والسيادة المستحيلة. ولن يكون صعباً إقناع من اختير من بين السوريين ليمثل المعارضة بأن حظ السوريين عاثر، لأن ثورتهم جاءت في سياقات إقليمية ودولية صعبة، وإن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.
ولا يتناقض السعي الأميركي الروسي إلى ترتيب تسوية إقليمية على حساب الشعب السوري،
بمساعدة أشقاء وحلفاء وأصدقاء، مع البيان الذي وقعت عليه أقلام المعارضة السورية في الرياض، والذي يتمسك بموقف المعارضة المعروف من دون تغيير، سواء في التأكيد على مرجعية جنيف1 أو في التمسك بمرحلة انتقالية، تقود إلى تغيير نظام الحكم الديكتاتوري بنظام حكم ديمقراطي جديد. بل هو جزء من عملية التصفية نفسها، والتعبير الفاقع عنها. وينطبق الأمر نفسه على خطاب "عنترة" الأسد، وإصراره التاريخي على رفض الاعتراف بالثورة وبالمعارضة، أو التفاوض معها على أي شيء، قبل أن تلقي السلاح، وأن يقدم لها بعد استسلامها أكثر من موقع أجير صغير ينضم إلى حكومة وحدة وطنية، يقودها بنفسه، كما قادها في كل وقت، حسب إرادته ومزاجه، لكن، هذه المرة، تحت رعاية روسيا العظمى. فمراعاة الطرفان في خطابيهما أمر ضروري لحفظ ماء وجهيهما وتشجيعهما على الانخراط من جهة، ولرعاية أوهام القوة والسيادة والانتصار التي يحتاجان إليها كي يتمكنا من إقناع قاعدتيهما بالسير وراء الخطة شبه السرية المطروحة.
عندما تصبح موسكو الخصم والحكم
لكن، لا بيانات المعارضة الاستعراضية، ولا خطابات الأسد وأحاديثه العنترية هي التي ستحكم مسار التسويات، وتقرر مصير السوريين، وتوزيع الحصص والمنافع ومناطق النفوذ على هؤلاء وأولئك. ليس ذلك كله سوى الغلالة المطلوبة للتغطية على المداولات الدولية المعقدة والمكثفة التي تدور في الأقنية السرية، والتي آخر من يعلم بها هم السوريون على مختلف أطيافهم ومواقعهم وانتماءاتهم، فالمفاوضات المزمع إطلاقها ليست، بالأساس، سورية سورية، لكنها مفاوضات دولية لفك الاشتباك بين الدول الإقليمية المتورطة في الحرب السورية وتوحيدها ضد الإرهاب، ولا تعني السوريين إلا بمقدار ما يتوجب عليهم تنفيذ مخرجاتها، من خلال حكومة وحدة وطنية والانخراط جميعا، موالين ومعارضين، معها في الحرب المقدسة، متناسين مشكلاتهم "الصغيرة".
في هذا السياق، لا تصبح القضية السورية عادلة أو غير عادلة تستحق الاهتمام بها ومواجهتها كمشكلة أساسية، حتى من منظور حرب أهليةٍ، لا من كونها صراعاً شرعياً لشعبٍ ضد طاغية، وإنما تتحول إلى عقبةٍ، ينبغي التخلص منها للتفرغ لقضية أكبر تمس مصير الإنسانية، ولا يتوقف أذاها على السوريين وحدهم. فعلى السوريين أن ينسوا، اليوم، نزاعاتهم، ويرتقوا إلى مستوى المشاركة في الحرب الدولية على الإرهاب، ويتجاوزوا نزاعهم مع طاغيتهم، هذا واجبهم، وما ينتظره العالم منهم، ولا يهم على أي قاعدة وبأي ثمن.
هذه هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لتغييب المسألة السورية، مسألة الثورة ضد الديكتاتورية الدموية، وراء مسألة داعش والحرب ضد الإرهاب. وهو ثمرة الاستراتيجية الطويلة المدى التي طبقها حلفاء الأسد، منذ البداية، بإطلاق سراح معتقلي القاعدة في السجون السورية والعراقية، وفتح مخازن أسلحة جيوشهم لهم، وكذلك بالنفخ في نار حربٍ طائفيةٍ موازيةٍ للحرب السياسية، من خلال زج المليشيات الطائفية العراقية واللبنانية في المعركة، وإغراق سورية بالدم وجرائم الإبادة الجماعية هنا وهناك. وهي الاستراتيجية التي أتقنها الأسد، ومارسها مع حلفائه، من خلال اختراق التنظيمات المتطرفة أو تكوينها، على مدى عقود، في سورية ولبنان والعراق وفلسطين.
وبصرف النظر عن المظاهر المخادعة، تلتقي جميع الأطراف الدولية اليوم، الصديقة والعدوة،
على تغييب القضية السورية، واعتبار مواجهة الإرهاب القضية المركزية اليوم في سورية والعراق والعالم أجمع، وأن المطلوب لوقف انتشار الهمجية هو جمع الأطراف الإقليمية والدولية في تحالف واحد. وفي السياق نفسه، جمع قوى المعارضة إلى جانب النظام، من أجل استئصال داعش وأخواتها. ولا مانع، في البداية للوصول إلى هذا الهدف، من استخدام مزيد من الهمجية والقتل، لإقناع قوى المعارضة المسلحة بتغيير منحى القتال وهدفه. وهذا ما يعكسه، بشكل فاضح، الصمت الدولي عن العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات الروسية الجوية، بالتنسيق مع طهران والأسد، والتي تستهدف، بشكل رئيسي، قوات المعارضة، وتتسبب بمجازر ودمار لا مثيل لهما في المدن والأحياء المستهدفة.
بالتأكيد، لا يعني رسو المناقصة في التخلص من القضية السورية على موسكو أن مواقف جميع الأطراف متطابقة، أو أن هناك تفاهماً مسبقاً حول نتائج التسوية المطلوبة، السورية أو الإقليمية. كما لا يعني تسليم الولايات المتحدة لروسيا بقيادة عملية التسوية تطابق مواقفهما، أو الاتفاق المسبق على كل ما يحصل. هناك تعاون وتنسيق، لكن لكل طرف مصالحه، وعليه أن يتحمل مسؤولياته. وربما ستكون واشنطن سعيدةً، إذا غرقت موسكو في المستنقع السوري، أيضاً، وفشلت في الوصول إلى أهدافها. لذلك، لا يعني التنازل لها عن قيادة العملية أنه لم تعد هناك خلافات، أو أن التسوية السورية، وأهم منها التسوية الإقليمية، أصبحت جاهزة.
إلقاء واشنطن والغرب المسؤولية على روسيا يهدف إلى الهرب من المسؤولية بأرخص الأثمان. وهذا أخطر ما في الأمر. فهذا ما يجعل روسيا تعتقد أنها وحدها تستطيع أن تقرر صيغة التسوية المطلوبة ومضمونها. وهذا ما تحاول أن تفعله، بسعيها إلى إخراج الأطراف التي تتعارض مع رؤيتها وتهميشها، وفي طليعتها تركيا، كما يظهر ذلك تفاقم التوتر بين أنقرة وموسكو، وكذلك قوات المعارضة التي ترفض القبول بتوجهاتها ورؤيتها للحل. والنتيجة أن معركة موسكو من أجل التسوية تنزع إلى أن تتطابق بشكل أكبر مع معركة روسيا للدفاع عن مصالحها القومية في الشرق الأوسط، أو لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها، وإعادة تعريف مصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، على حساب جميع الأطراف الأخرى. وهذا ما يجعل من دور روسيا إشكالياً، ويهدد التسوية نفسها، السورية والإقليمية، ويظهر أنها ليست جاهزة بعد، بعكس ما يتراءى لأطراف إقليمية ودولية وسورية عديدة، تعتقد أنها في طريقها إلى الخروج من الأزمة واحتواء مخاطر استمرارها.
تغييب القضية السورية لن يسهل الحل
ليس لدى موسكو أي مشكلة مع الغرب في تطبيق رؤيتها والدفاع عن مصالحها، فمن جهةٍ لم يعد للغربيين في سورية عموماً مصالح حيوية يدافعون عنها. ومن جهة ثانية، لم يعد الاستثمار العسكري والسياسي يقدم فيها أي عائد مغرٍ، مع تعاظم الرهانات الموضوعة عليها والاستثمارات الكبرى من القوى الإقليمية المتنازعة. ولولا ضغط مسألة الإرهاب الدولي، وتفاقم أزمة اللاجئين، لما استمرت القوى الغربية توليها أي اهتمام، ولتركتها بؤرة للحرب والنزاع والفوضى، كما هو الحال في مناطق كثيرة في العالم.
وبالمثل ليس لموسكو مشكلة مع إسرائيل، فمشروع التسوية الذي تقترحه، والذي يعني جوهرياً
تحييد الشعب السوري، وإخراجه من المعادلة، لصالح الحفاظ على النظام المفصول عن شعبه، هو تماماً ما تريده إسرائيل، ويتطابق مع خططها في الحفاظ على غلالة نظامٍ، لم يعد سوى ظل نفسه، تستطيع في ظله استكمال عملها في إفراغ سورية من قوتها السياسية والعسكرية، والاقتصادية، وتدمير أسلحتها الاستراتيجية، وتقويض آمال إعادة بنائها دولة وطنية، وبالتالي، ضمان سيطرتها على الوضع والتحكم به، والتكريس النهائي لضم أراضي الجولان المحتلة.
لكن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بالسوريين وبالدول الإقليمية، فعلى روسيا لكي تنجح في فرض تسوية دائمة تكرس نفوذها، وتحفظ لها حصة الأسد في توزيع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية في سورية، أن تقنع الشعب السوري بأن القبول بعودة الديكتاتورية الدموية لآل الأسد والحفاظ على أجهزتها القمعية المتوحشة، مصلحة قومية سورية ينبغي التمسك بها. وهذا لن يحصل من دون الاستمرار في الحرب، لكسر إرادته، ولتحييد مقاتليه وإرهابهم.
وعليها ثانياً أن تجد جائزة ترضية تليق بمقام طهران و"بابها العالي" التي وضعت كل ثقلها في الحرب منذ خمس سنوات، والتي تعتقد على الرغم من أنها لا تشترك بأي حدود أو قربى ثقافية مع دمشق، أن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وأن السيطرة عليها مصلحة قومية إيرانية، ولن تقبل تقاسم السيطرة والنفوذ فيها مع أي أطراف إقليمية منافسة لها، بعد أن رفضت ذلك مع الشعب السوري نفسه.
وعلى موسكو، ثالثاً، أن تقنع تركيا التي تربطها بسورية حدود مشتركة تتجاوز 900 كلم، والتي تحملت العبء الأكبر من المحنة الإنسانية للحرب، مع وجود أكثر من مليوني لاجئ ومقيم سوري فيها، أن تنسى علاقاتها التاريخية والسياسية والثقافية والتجارية الطويلة مع دمشق، وتغض النظر عن مخاطر تمدد داعش والتنظيمات الإرهابية على حدودها، وعن المخاوف التي تتسبب فيها إعادة إحياء المشكلة الكردية القومية، وتقبل بأن تسحب أنقرة يدها من المسألة، وربما أن تقر بخطئها وتعترف بمسؤوليتها عن تغذية الإرهاب في سورية والمنطقة، وتعتذر عنها.
وعليها رابعاً أن تضمن لدول الخليج التي تشكل سورية امتداداً جغرافياً لها، وتجمعها معها وشائج القومية والثقافة والدين، وتمثل من دون نقاش خط الدفاع الأول عنها، في مواجهة إرادة التوسع والهيمنة الإيرانية على المنطقة، أن أمنها القومي لا يستدعي رحيل الأسد الذي تحول إلى بيدق في يد طهران، وإنما في تعزيز سلطته وإعادة تأهيله.
ما من شك في أن مكانة الدول ومواقعها التي تطورت بالتدريج، وتكرست، على مدى عقود سابقة، على الساحة الإقليمية، قد تغيرت بعد سنوات الحرب الطويلة، وظهرت خريطة جديدة لتوزيع المصالح ومناطق النفوذ، وبرزت مصالح استراتيجية واقتصادية، لم تكن واضحة أو مهمة من قبل، وانهارت أحلام دول، وولدت مطامع دول جديدة. ومن هذه المصالح ما يرتبط، اليوم، بالصراع على السيطرة على سوق الغاز الذي تتنازع فيه، وعليه، روسيا وإيران ودول الخليج، والذي تشكل السيطرة على حقوله الكبيرة المكتشفة في الساحل السوري، بالإضافة إلى دور الجغرافية السورية طريقاً للعبور نحو أوروبا، مصدر نزاعات جديدة، تنطوي بالنسبة لبعضهم على رهانات استراتيجية كبرى. وكما لم يعد من الممكن العودة بالمنطقة إلى التوازنات السابقة على الحرب التي ضمنت بقاء نظام الأسد والتوافق عليه. لم يعد من السهولة تحويل هذا النظام نفسه إلى مرتكز لإعادة بناء توازنات جديدة، ولم يعد نظام الأسد نفسه قادراً على البقاء بنفسه حتى يضمن بقاء مثل هذه التوازنات الإقليمية. الاحتفاظ بالأسد، بعكس ما يعتقد الروس، بدل أن يساعد على الحل، يعني، بحد ذاته وفي جوهره، الرفض القاطع للتسوية، وفرض الأمر الواقع، أي ببساطة الاستمرار في الحرب.
وكما كان إسقاط النظام الديكتاتوري الهدف الذي وحّد من حوله الشعب السوري، يشكل التمسك ببقائه، والإلحاح عليه الدافع الأكبر لتقسيمهم. وكما كان إنهاء النظام ورمزه المشخص جوهر ثورتهم، لاستعادة كرامتهم وسيادتهم كشعب، سيكون تثبيته والتمسك برمزه الأسد تعبيراً عن الاستمرار في إنكار ثورتهم وتضحياتهم الهائلة، وتجريدهم من حقوقهم، وفي مقدمها حقهم الأسمى في تقرير مصيره.
تقاتل جميع الأطراف على الأرض السورية، من أجل زيادة مكاسبها وتعظيم نفوذها، أما السوريون فيقاتلون دفاعاً عن وجودهم وكرامتهم وحقوقهم، أي عن إنسانيتهم. وإذا استمر الروس، ومن يساندهم في إصرارهم، على إخراج الشعب السوري من المعادلة، وترتيب تسوية إقليمية على حسابه، سواء جاء ذلك بذريعة ضعف معارضته أو انقسامه وتنوعه الديني والإثني الواهية، فلن تكون النتيجة تسوية توقف الحرب، وإنما أفغانستان جديدة، على امتداد المشرق بأكمله، أكثر مأساوية في نتائجها وعواقبها المحلية والعالمية، من كل ما عرفته المنطقة في كل تاريخها.
بين المكابرة الكلامية والتسليم بالأمر الواقع
وعلى الرغم من بعض المظاهر التي تشير إلى العكس، لا توجد بين المقاربتين، الأميركية والروسية تناقضات، ولا حتى اختلافات عميقة. الهم الرئيسي لواشنطن، ومن ورائها أكثر فأكثر العواصم الغربية، أن تطمئن الرياض على موقعها في سورية، من أجل أن تلعب الدور الإيجابي الذي ينتظره منها الجميع، وروسيا أيضا. وتعتقد واشنطن عن حق أنها، بغياب أي إرادة في الانخراط من باراك أوباما، أن روسيا مفتاح الحل. وتشعر موسكو، منذ بادرت إلى التدخل العسكري المباشر، وركبت مخاطره، بأنها مكلفة من المجتمع الدولي بأكمله بهذه المهمة، أعني الخلاص من "الأزمة السورية"، وطي ملفها بأي ثمن، لقطع طريق التوسع غير المسيطر عليه للإرهاب العالمي، كما تشعر بأنها الوحيدة القادرة على تنفيذها بكل ما تتضمنه من أعمال قذرة، تستدعي القضاء على مزيد من المدنيين السوريين، في سياق كسر القوة الضاربة للجيش الحر، وإجباره على الاستسلام، وإجبار السوريين جميعاً، من وراء ذلك، على القبول المؤقت بحكم الأسد، والتخلي عن حلم الانتقال السياسي وتغيير النظام، وكذلك بما يقتضيه تنفيذها، أيضاً، من أعمال "إيجابية" تنطوي، بشكل رئيسي، على إقناع الرياض وطهران بتخفيض سقف مطالبهما للتوصل إلى تسوية توقف القتال في سورية، وتعيد توحيد الدول الإقليمية، تحت قيادة روسيا، حول مهمة الحرب المقدسة ضد الإرهاب واستئصال داعش والمنظمات الجهادية السنية، ما سيشكل برهاناً ناصعاً على عودة موسكو المدوية إلى ساحة السياسة الدولية.
ومن الواضح أن الأمم المتحدة ليست بعيدة عن المصادقة على هذا التكليف، ولا تجد فيه ما يناقض رسالتها، بعد أن عجزت عن القيام بأي دور لحفظ حياة المدنيين، ووقف القصف بالبراميل المتفجرة، ووضع حد لحصار التجويع والموت البطيء الذي يعاني منه ملايين السوريين. ولا يقوم ممثلها، ستيفان دي ميستورا، بشيء آخر سوى انتظار نتائج الخطة الروسية لتمهيد الأرض ليبدأ عمله، تحت شعار بدء مفاوضات سورية سورية، تستكمل التسوية الإيرانية الخليجية، وتكون ملحقاً مرتبطاً بها. وفي هذه الحالة، لن يحتاج المبعوث الدولي إلى عبقرية كبيرة، حتى يستطيع أن يكيف مطالب المعارضة السورية، بعد أن جرّد لحمها عن عظمها، مع مطالب التسوية الإقليمية، وأن يقنع السوريين بأن الحصول على عظمة مبلولة بمرق السلام والديمقراطية الانتخابية، وبوعود إعادة الإعمار أفضل من البقاء في العراء، تحت نيران القنابل الحارقة والصورايخ الباليستية والمجنحة، القادمة من البر والبحر والجو. باختصار، ما سيقال للسوريين إن من الأفضل لكم أن تحافظوا على حياة ما تبقى من أبنائكم، بدل دغدغة أحلام الحرية والتعلق بأوهام الثورة وقيم الكرامة والسيادة المستحيلة. ولن يكون صعباً إقناع من اختير من بين السوريين ليمثل المعارضة بأن حظ السوريين عاثر، لأن ثورتهم جاءت في سياقات إقليمية ودولية صعبة، وإن عصفوراً في اليد خير من عشرة على الشجرة.
ولا يتناقض السعي الأميركي الروسي إلى ترتيب تسوية إقليمية على حساب الشعب السوري،
عندما تصبح موسكو الخصم والحكم
لكن، لا بيانات المعارضة الاستعراضية، ولا خطابات الأسد وأحاديثه العنترية هي التي ستحكم مسار التسويات، وتقرر مصير السوريين، وتوزيع الحصص والمنافع ومناطق النفوذ على هؤلاء وأولئك. ليس ذلك كله سوى الغلالة المطلوبة للتغطية على المداولات الدولية المعقدة والمكثفة التي تدور في الأقنية السرية، والتي آخر من يعلم بها هم السوريون على مختلف أطيافهم ومواقعهم وانتماءاتهم، فالمفاوضات المزمع إطلاقها ليست، بالأساس، سورية سورية، لكنها مفاوضات دولية لفك الاشتباك بين الدول الإقليمية المتورطة في الحرب السورية وتوحيدها ضد الإرهاب، ولا تعني السوريين إلا بمقدار ما يتوجب عليهم تنفيذ مخرجاتها، من خلال حكومة وحدة وطنية والانخراط جميعا، موالين ومعارضين، معها في الحرب المقدسة، متناسين مشكلاتهم "الصغيرة".
في هذا السياق، لا تصبح القضية السورية عادلة أو غير عادلة تستحق الاهتمام بها ومواجهتها كمشكلة أساسية، حتى من منظور حرب أهليةٍ، لا من كونها صراعاً شرعياً لشعبٍ ضد طاغية، وإنما تتحول إلى عقبةٍ، ينبغي التخلص منها للتفرغ لقضية أكبر تمس مصير الإنسانية، ولا يتوقف أذاها على السوريين وحدهم. فعلى السوريين أن ينسوا، اليوم، نزاعاتهم، ويرتقوا إلى مستوى المشاركة في الحرب الدولية على الإرهاب، ويتجاوزوا نزاعهم مع طاغيتهم، هذا واجبهم، وما ينتظره العالم منهم، ولا يهم على أي قاعدة وبأي ثمن.
هذه هي النتيجة الطبيعية والمنطقية لتغييب المسألة السورية، مسألة الثورة ضد الديكتاتورية الدموية، وراء مسألة داعش والحرب ضد الإرهاب. وهو ثمرة الاستراتيجية الطويلة المدى التي طبقها حلفاء الأسد، منذ البداية، بإطلاق سراح معتقلي القاعدة في السجون السورية والعراقية، وفتح مخازن أسلحة جيوشهم لهم، وكذلك بالنفخ في نار حربٍ طائفيةٍ موازيةٍ للحرب السياسية، من خلال زج المليشيات الطائفية العراقية واللبنانية في المعركة، وإغراق سورية بالدم وجرائم الإبادة الجماعية هنا وهناك. وهي الاستراتيجية التي أتقنها الأسد، ومارسها مع حلفائه، من خلال اختراق التنظيمات المتطرفة أو تكوينها، على مدى عقود، في سورية ولبنان والعراق وفلسطين.
وبصرف النظر عن المظاهر المخادعة، تلتقي جميع الأطراف الدولية اليوم، الصديقة والعدوة،
بالتأكيد، لا يعني رسو المناقصة في التخلص من القضية السورية على موسكو أن مواقف جميع الأطراف متطابقة، أو أن هناك تفاهماً مسبقاً حول نتائج التسوية المطلوبة، السورية أو الإقليمية. كما لا يعني تسليم الولايات المتحدة لروسيا بقيادة عملية التسوية تطابق مواقفهما، أو الاتفاق المسبق على كل ما يحصل. هناك تعاون وتنسيق، لكن لكل طرف مصالحه، وعليه أن يتحمل مسؤولياته. وربما ستكون واشنطن سعيدةً، إذا غرقت موسكو في المستنقع السوري، أيضاً، وفشلت في الوصول إلى أهدافها. لذلك، لا يعني التنازل لها عن قيادة العملية أنه لم تعد هناك خلافات، أو أن التسوية السورية، وأهم منها التسوية الإقليمية، أصبحت جاهزة.
إلقاء واشنطن والغرب المسؤولية على روسيا يهدف إلى الهرب من المسؤولية بأرخص الأثمان. وهذا أخطر ما في الأمر. فهذا ما يجعل روسيا تعتقد أنها وحدها تستطيع أن تقرر صيغة التسوية المطلوبة ومضمونها. وهذا ما تحاول أن تفعله، بسعيها إلى إخراج الأطراف التي تتعارض مع رؤيتها وتهميشها، وفي طليعتها تركيا، كما يظهر ذلك تفاقم التوتر بين أنقرة وموسكو، وكذلك قوات المعارضة التي ترفض القبول بتوجهاتها ورؤيتها للحل. والنتيجة أن معركة موسكو من أجل التسوية تنزع إلى أن تتطابق بشكل أكبر مع معركة روسيا للدفاع عن مصالحها القومية في الشرق الأوسط، أو لتوسيع دائرة نفوذها وسيطرتها، وإعادة تعريف مصالحها الاقتصادية والسياسية والاستراتيجية، على حساب جميع الأطراف الأخرى. وهذا ما يجعل من دور روسيا إشكالياً، ويهدد التسوية نفسها، السورية والإقليمية، ويظهر أنها ليست جاهزة بعد، بعكس ما يتراءى لأطراف إقليمية ودولية وسورية عديدة، تعتقد أنها في طريقها إلى الخروج من الأزمة واحتواء مخاطر استمرارها.
تغييب القضية السورية لن يسهل الحل
ليس لدى موسكو أي مشكلة مع الغرب في تطبيق رؤيتها والدفاع عن مصالحها، فمن جهةٍ لم يعد للغربيين في سورية عموماً مصالح حيوية يدافعون عنها. ومن جهة ثانية، لم يعد الاستثمار العسكري والسياسي يقدم فيها أي عائد مغرٍ، مع تعاظم الرهانات الموضوعة عليها والاستثمارات الكبرى من القوى الإقليمية المتنازعة. ولولا ضغط مسألة الإرهاب الدولي، وتفاقم أزمة اللاجئين، لما استمرت القوى الغربية توليها أي اهتمام، ولتركتها بؤرة للحرب والنزاع والفوضى، كما هو الحال في مناطق كثيرة في العالم.
وبالمثل ليس لموسكو مشكلة مع إسرائيل، فمشروع التسوية الذي تقترحه، والذي يعني جوهرياً
لكن الوضع يختلف عندما يتعلق الأمر بالسوريين وبالدول الإقليمية، فعلى روسيا لكي تنجح في فرض تسوية دائمة تكرس نفوذها، وتحفظ لها حصة الأسد في توزيع المصالح الاستراتيجية والاقتصادية والجيوسياسية في سورية، أن تقنع الشعب السوري بأن القبول بعودة الديكتاتورية الدموية لآل الأسد والحفاظ على أجهزتها القمعية المتوحشة، مصلحة قومية سورية ينبغي التمسك بها. وهذا لن يحصل من دون الاستمرار في الحرب، لكسر إرادته، ولتحييد مقاتليه وإرهابهم.
وعليها ثانياً أن تجد جائزة ترضية تليق بمقام طهران و"بابها العالي" التي وضعت كل ثقلها في الحرب منذ خمس سنوات، والتي تعتقد على الرغم من أنها لا تشترك بأي حدود أو قربى ثقافية مع دمشق، أن سورية أصبحت جزءاً من مجالها الحيوي، وأن السيطرة عليها مصلحة قومية إيرانية، ولن تقبل تقاسم السيطرة والنفوذ فيها مع أي أطراف إقليمية منافسة لها، بعد أن رفضت ذلك مع الشعب السوري نفسه.
وعلى موسكو، ثالثاً، أن تقنع تركيا التي تربطها بسورية حدود مشتركة تتجاوز 900 كلم، والتي تحملت العبء الأكبر من المحنة الإنسانية للحرب، مع وجود أكثر من مليوني لاجئ ومقيم سوري فيها، أن تنسى علاقاتها التاريخية والسياسية والثقافية والتجارية الطويلة مع دمشق، وتغض النظر عن مخاطر تمدد داعش والتنظيمات الإرهابية على حدودها، وعن المخاوف التي تتسبب فيها إعادة إحياء المشكلة الكردية القومية، وتقبل بأن تسحب أنقرة يدها من المسألة، وربما أن تقر بخطئها وتعترف بمسؤوليتها عن تغذية الإرهاب في سورية والمنطقة، وتعتذر عنها.
وعليها رابعاً أن تضمن لدول الخليج التي تشكل سورية امتداداً جغرافياً لها، وتجمعها معها وشائج القومية والثقافة والدين، وتمثل من دون نقاش خط الدفاع الأول عنها، في مواجهة إرادة التوسع والهيمنة الإيرانية على المنطقة، أن أمنها القومي لا يستدعي رحيل الأسد الذي تحول إلى بيدق في يد طهران، وإنما في تعزيز سلطته وإعادة تأهيله.
ما من شك في أن مكانة الدول ومواقعها التي تطورت بالتدريج، وتكرست، على مدى عقود سابقة، على الساحة الإقليمية، قد تغيرت بعد سنوات الحرب الطويلة، وظهرت خريطة جديدة لتوزيع المصالح ومناطق النفوذ، وبرزت مصالح استراتيجية واقتصادية، لم تكن واضحة أو مهمة من قبل، وانهارت أحلام دول، وولدت مطامع دول جديدة. ومن هذه المصالح ما يرتبط، اليوم، بالصراع على السيطرة على سوق الغاز الذي تتنازع فيه، وعليه، روسيا وإيران ودول الخليج، والذي تشكل السيطرة على حقوله الكبيرة المكتشفة في الساحل السوري، بالإضافة إلى دور الجغرافية السورية طريقاً للعبور نحو أوروبا، مصدر نزاعات جديدة، تنطوي بالنسبة لبعضهم على رهانات استراتيجية كبرى. وكما لم يعد من الممكن العودة بالمنطقة إلى التوازنات السابقة على الحرب التي ضمنت بقاء نظام الأسد والتوافق عليه. لم يعد من السهولة تحويل هذا النظام نفسه إلى مرتكز لإعادة بناء توازنات جديدة، ولم يعد نظام الأسد نفسه قادراً على البقاء بنفسه حتى يضمن بقاء مثل هذه التوازنات الإقليمية. الاحتفاظ بالأسد، بعكس ما يعتقد الروس، بدل أن يساعد على الحل، يعني، بحد ذاته وفي جوهره، الرفض القاطع للتسوية، وفرض الأمر الواقع، أي ببساطة الاستمرار في الحرب.
وكما كان إسقاط النظام الديكتاتوري الهدف الذي وحّد من حوله الشعب السوري، يشكل التمسك ببقائه، والإلحاح عليه الدافع الأكبر لتقسيمهم. وكما كان إنهاء النظام ورمزه المشخص جوهر ثورتهم، لاستعادة كرامتهم وسيادتهم كشعب، سيكون تثبيته والتمسك برمزه الأسد تعبيراً عن الاستمرار في إنكار ثورتهم وتضحياتهم الهائلة، وتجريدهم من حقوقهم، وفي مقدمها حقهم الأسمى في تقرير مصيره.
تقاتل جميع الأطراف على الأرض السورية، من أجل زيادة مكاسبها وتعظيم نفوذها، أما السوريون فيقاتلون دفاعاً عن وجودهم وكرامتهم وحقوقهم، أي عن إنسانيتهم. وإذا استمر الروس، ومن يساندهم في إصرارهم، على إخراج الشعب السوري من المعادلة، وترتيب تسوية إقليمية على حسابه، سواء جاء ذلك بذريعة ضعف معارضته أو انقسامه وتنوعه الديني والإثني الواهية، فلن تكون النتيجة تسوية توقف الحرب، وإنما أفغانستان جديدة، على امتداد المشرق بأكمله، أكثر مأساوية في نتائجها وعواقبها المحلية والعالمية، من كل ما عرفته المنطقة في كل تاريخها.