سورية... هيئة التنسيق بديلا عن الائتلاف
لم يجامل وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، أحداً في كلمته في افتتاح مؤتمر جنيف الثاني في مونترو، في 22 فبراير/كانون ثاني 2014 "وهكذا، ففي الوقت الذي لا مكان فيه لمرتكبي هذا العنف (ويعني بشار الأسد)، فإنه لا يمكن أن يكون أيضا مكان لآلاف المتطرفين العنيفين الذين ينشرون أيديولوجيتهم البغيضة، ويفاقمون معاناة الشعب السوري". كان هذا الكلام واضحاً جداً أن الولايات المتحدة الاميركية تبحث عن مكون ثالث، ليرسم مستقبل سورية. وهذا ما يلتقي، بوضوح، بما جاء في نص البند أ من الفقرة التاسعة من وثيقة جنيف لعام 2012: "إقامة هيئة حكم انتقالية، باستطاعتها أن تهيئ بيئة محايدة، تتحرك في ظلها العملية الانتقالية، وتمارس فيها هيئة الحكم الانتقالية كامل السلطات التنفيذية. ويمكن أن تضم أعضاء من الحكومة الحالية والمعارضة ومن المجموعات الأخرى. ويجب أن تشكل على أساس الموافقة المتبادلة". وفي العلوم القانونية، يعلم الجميع أن لفظ يمكن لا يعني الوجوب، بل إمكانية حدوث الشيء. وهنا، لابد من تفسير ما هي المجموعات الأخرى التي يمكن أن تتشكل منها هيئة الحكم الانتقالي، فهذه المجموعات ليست من النظام، وليست من المعارضة.
هذان الغموض والالتباس سيسمحان للولايات المتحدة بحركة كثيرة، فإذا كان موقفها من النظام يمكن اعتباره واضحاً، فإن موقفها من المعارضة هو الأكثر التباساً، فهي دائما تتحدث عن معارضة معتدلة، وفي أحيان كثيرة، يبدي مسؤولوها شكوكهم بوجود مثل هذه المعارضة.
تشكك الولايات المتحدة، والتي تتعامل مع "الائتلاف الوطني"، باعتباره الجسم الرئيس للمعارضة، بين الفينة والأخرى، بمدى تمثيلية هذا الائتلاف، بل لقد حثته بأكثر من مناسبة على ضرورة أن يبرم اتفاقاً مع قوى المعارضة الأخرى، والمقصود بها هنا هيئة التنسيق الوطني، وهو أمر كان يرغب به الموفد الدولي السابق، الأخضر الإبراهيمي، حيث أكد، أكثر من مرة، أنه لا يمكن عقد مفاوضات مع النظام، إلا بمعارضة وازنة ومقنعة، وتمثل جزءاً مهما من الشعب السوري. ولكن، على الرغم من هذه التحفظات، تمت الدعوات في مؤتمر جنيف، ورضخ الإبراهيمي للرغبة الأميركية في عقد هذا المؤتمر، من دون توفير شروط النجاح له، الأمر الذي أدى به، في النهاية، إلى الاستقالة، وترك هذه المهمة لإدراكه أن الولايات المتحدة لم تكن جادة في توفير متطلبات نجاح المؤتمر.
ومن المفارقات العجيبة، الآن، أن واشنطن التي مازالت تبحث، منذ أول الثورة السورية، عن معارضة معتدلة تتعامل معها، وجدت ضالتها، أخيراً، في صالح مسلم، والذي يعتبر بشكل ما الذراع العسكري الوحيد لهيئة التنسيق الوطني، فالولايات المتحدة الأميركية التي كانت تتحفظ، دائماً، على دعم المعارضة المسلحة، بذريعة منع وصول السلاح إلى الأيدي الخطأ، تتخلى عن كل هذه التحفظات، وتلقي بالسلاح جواً على قوات صالح مسلم في عين العرب، ليصل جزء منها إلى الأيدي الخطأ (داعش) من دون أن يرف لها جفن.
ولا يمكن فصل هذا المشهد عن اللقاءات التي تمت بين حزب صالح مسلم ومسؤولين أميركيين، في باريس في الثاني عشر من أكتوبر/تشرين أول الجاري، ولا يمكن فصل هذا، أيضاً، عن تصريحات رئيس هيئة التنسيق، حسن عبد العظيم، بعد لقائه المبعوث الأممي إلى سورية، ستيفان ديمستورا، في الحادي عشر من سبتمبر/أيلول الماضي، حيث استخدم عبد العظيم مصطلح ضرورة وجود معارضة وازنة ومقنعة، تبدأ بالتفاوض حول مرحلة انتقالية، بل إنه أضاف أن المعارضة المسلحة التي تقبل بالحل السياسي يمكن أن تكون ممثلة في أي عملية سياسية، مع العلم أن هيئة التنسيق كانت تدين عسكرة الثورة، وتدين جميع الفصائل المعارضة التي تحمل السلاح.
إن تفاهم الأطراف الكردية الذي تم في دهوك في الثاني والعشرين من الشهر الجاري، والذي تضمن تشكيل قيادة سياسية عليا مشتركة بين حزب صالح مسلم والمجلس الوطني الكردي، أحد المكونات الرئيسية في الائتلاف الوطني، يوضح بدقة أن جزءاً من هيئة التنسيق (حزب الاتحاد الديمقراطي) بات في تحالف واحد مع جزء من الائتلاف (المجلس الوطني الكردي)، وسيكون لهذا التحالف الجديد قوات عسكرية مشتركة. هنا يصبح مفهوماً جداً تقارب الولايات المتحدة مع صالح مسلم. فهذا التقارب لا يمكن عزله عن محاولة واشنطن بإنتاج معارضة معتدلة (كما تطلب) تشكل أساساً للحل السياسي الذي يتم تجهيز المشهدين، المحلي والإقليمي، له في الوقت الراهن. وسيكون قوام المعارضة العسكرية المعتدلة قوات مشتركة بين صالح مسلم من هيئة التنسيق والمجلس الوطني الكردي من "الائتلاف"، إضافة إلى عدد من أبناء العشائر العربية في المنطقة الشرقية، يمكن الوثوق بهم على حد تعبير السياسيين الأميركيين.
وهذا ما عبر عنه المبعوث الرئاسي الأميركي الخاص للتحالف الدولي لمحاربة داعش، الجنرال جون ألن، حيث صرح لمحطة سي إن إن، في الأول من أكتوبر/تشرين أول الجاري، إن "نيتنا بناء قوات موثوق منها، وقوات مدقق فيها، وقوات ذات مصداقية"، وأضاف أن هدف هذه القوات هو فقط محاربة داعش، وليس أي شيء آخر، حيث قال، في اللقاء نفسه، إن الأسد ليس أحد خياراتنا، وأنه في نهاية المطاف سيكون هناك محصلة سياسية.
لقد ساهم الائتلاف الوطني السوري، بتياراته السياسية وبأعضائه، في الوصول إلى هذه النتيجة التي تريدها الولايات المتحدة، فقد أثبت الائتلاف للجميع أنه غير قادر على أن يكون شريكاً للعالم، بسبب العبث السياسي الذي يمارسه، والذي يصل، أحياناً، إلى العبث البوهيمي الذي لا يمكن فهمه وتحليله والوقوف على أسبابه، فحضور الائتلاف القاصر في المشهد السوري الداخلي يعززه قصور الحضور في اجتماعات الائتلاف الذي يترافق عادة مع تفكير سحري، وهمي منفصل عن الواقع، وغير قادر على رؤية حركة الأحداث المحيطة به. وذلك كله جعل من الائتلاف جسماً أشبه بالميت سريرياً الذي يرجو الجميع له أن يسلم الروح، ليتخلص من عذاباته، من دون أن يقدم أحد على إطلاق رصاصة الرحمة على رأسه.
ويبدو أن عوامل التدمير الذاتي، والتي بلغت مداها داخل الائتلاف، إضافة إلى عدم قدرة أعضاء الائتلاف على قراءة الواقع، وإدراك حجم التوازنات الإقليمية والدولية في القضية السورية. وذلك كله سيؤدي إلى أن يتحول الائتلاف إلى ذكرى في حياة السوريين، ولن يكون هذا اليوم بعيداً في ظل غياب الائتلاف، عنصراً فعالاً وشريكاً يمكن الركون إليه في العملية السياسية، ولن يتبقى من المشهد المعارض في سورية سوى هيئة التنسيق، والتي يمكن تأهيلها، وتلميع طروحاتها "المعتدلة" بقليل من الجهد، ولا سيما وأن عملية التعاون العملي والفعلي معها قد بدأت بالتعاطي الجدي مع ذراعها العسكري، قوات صالح مسلم، والذي سنراه يوما ما يجلس على الطاولة نفسها، مقابل جميل حسن، ليقرروا مصير سورية. لن يكون هذا المشهد بعيداً جداً. لكن، هذه المرة سيكون برعاية أميركية، وبمباركة دولية وإقليمية. يومها سيقول الائتلاف الوطني "ليتنا كنا معهم لفزنا فوزاً عظيما".