26 يونيو 2024
سورية.. هذان اليساران
دأب حافظ الأسد، منذ تسلّمه الحكم في سورية أواخر عام 1970، على تصوير سورية بأنها البلد المتنوع المنفتح الذي يحتضن كل الأيديولوجيات من سائر المعتقدات والمرجعيات، ويُهيئ المناخات الملائمة لكل فئةٍ لتمارس حرياتها، اجتماعية أو دينية.
لتحقيق ذلك، تظاهرَ بالحفاظ على إرث حزب البعث (اليساري). وفي الوقت نفسه، سعى إلى إحداث تغييرات جذرية وبطيئة في بنية المجتمع، بما يتواءم مع التديّن العفوي الذي يطبع نحو ثلثي الشعب (الأكثرية السنية)، ليضمن ولاءها، في حين كانت مجمل الأحزاب الفاعلة في السياسة/ المجتمع تتراجع، وتتحول إلى هياكل شكلية مفرغة من المضامين والتأثير.
بعد أحداث الثمانينيات، والمجازر التي ارتكبها حافظ الأسد بحق جماعة الإخوان المسلمين، وما تلاها من ظواهر "ردّة دينية" انتشرت في المجتمعات السورية، غذّاها النظام عبر قمعه كل التجمعات الموجّهة التي ربما تحمل صبغة سياسية، وكذلك بالنسبة للتجمعات الثقافية والاجتماعية، البعيدة عن السياسة. ولكن من الممكن أن يتمخّض عنها في المستقبل حراك فكري/ سياسي، وفي الوقت عينه، أعلى من شأن الدين، كعقيدة لها أثر في المجتمع والسياسة. وبالتالي، ارتفع سقف الحريات الدينية، وتغير شكل الحزب العلماني الحاكم، ودخل النظام في حالة خلطٍ بين الدين والسياسة.
نتائج الخط الجديد المتبع كانت متعدّدة، منها: سُمح، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بارتداء الحجاب في المدارس، بعد أن كان محظوراً، وتحرّرت التجمعات الدينية التي كانت
تنشط في الجوامع ظاهرياً، في حين كانت الجلسات الإسلامية التي تحتضنها منازل كثيرين ممن لديهم ارتباطاتٌ بحركاتٍ شبه متطرّفة، رعاها أعقاب أحداث الثمانينيات، مُراقبة ومُلاحقة أمنياً، ما أدى إلى تكاثرها، وهو ما كان يبغيه.
لن نأتي على ذكر ممارسات أخرى عديدة لإعلاء المعتقد، وتحويله من "العفوية" التي رعاها النظام الأب، وأكمل مسيرتها ابنه في محاولةٍ للالتفاف على الشروخ الاجتماعية والفكرية التي تجذّرت في المجتمع، والأمراض التي تكاثرت، بحكم القمع الحقيقي للحريات، وتفعيل حركات إسلامية متزمتة، كان يدرك تماماً أن لها أثرا تخريبيا على وعي المجتمع.
وبالمقارنة بين تمكين العلمانية، وتحقيق شروطها التي يمكن أن تكون ليست فقط منصفة للشعوب، بل تقود الدول نحو أنظمة ديمقراطية حقيقية، فإن حالة الخلط التي أحدثها النظام في المجتمع السوري بين الدين والسياسة كانت الأكثر نجاعةً وفاعليةً وقدرةً على تحقيق مخططاته في تحويل سورية إلى "مزرعة" خاصة به، وبعائلته وحاشيته، ومن ثم ضمان سيطرته على جماعاتٍ متنافرة وتضليلها وخداعها ونهب خيرات البلد.
جاء الراحل سلامة كيلة في مؤلفه "اليسار السوري.." (2016) على مشكلة التيارين التي لعب عليها حافظ الأسد، منتقداً اليسار الذي كان في حقبةٍ قادراً على التصدي لكل المشروعات شبه الاستعمارية: "والآن، هناك لون باهت لليسار في السلطة، وآخر باهت (كذلك) في المعارضة، وهو الذي واجه الاستبداد وناضل ضد الديكتاتورية، وكان مؤملاً أن يحافظ على يساريته. هذا الوضع نتج عن التحولات التي حدثت منذ خمسينيات القرن العشرين، حينما أنتج الصراع الواقعي وصول حزب البعث عن طريق الجيش إلى السلطة. هذا الحزب الذي اتخذ
صبغةً يسارية، وهو يسعى إلى تجاوز البنى التقليدية الإقطاعية التي كانت سائدة أواسط القرن العشرين، والمدعمة من قبل الاستعمار. وكان ينزع نحو الحداثة، كتعبير عن فئات وسطى فقيرة، خصوصاً في الريف. لكن وصوله إلى السلطة فرض تحوله إلى (اليمين) خلال عملية تحويل مجتمعي قاد هو تحقيقها، بدأت بتصفية الإقطاع عبر تطبيق الإصلاح الزراعي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، ثم وضع استراتيجية التنمية التي هدفت إلى بناء الصناعة، إضافة إلى تطوير البنية التحتية، وبالتالي أعيد تشكيل الريف طبقاً لمصلحة الفئات الوسطى بعد إزالة الإقطاع عبر تمليك الفلاحين مساحات من الأرض، كما توسعت الطبقة العاملة في ظل حقوق أساسية، حصلت عليها (العمل ثماني ساعات، الضمان الاجتماعي والتقاعد، والأجر المتناسب مع الأسعار)، وتعميم التعليم المجاني، حيث رافقت هذه العملية (وكان في قعرها) الميل للتبرجز (التحول إلى الرأسمالية) الذي حكم تلك الفئات التي وصلت إلى السلطة، والذي تحقق عبر النهب (وليس الفساد فقط) الذي طاول الفائض المتحقّق، في الإنتاج، وعبر سمسرة (الفساد). ولقد ترافق كل ذلك مع تكريس الدكتاتورية وتدمير السياسة، في المجتمع، واختراع طقوس تلهي البشر وتضلّلهم".
عندما نسمع عن الحريات في دول العالم المتقدم نتغنّى بها: أن يحظى المسلم بكل حقوقه وحرياته الإنسانية والدينية في معظم دول الغرب، من دون أن ندرك أن هذه الحريات المتاحة للتيار الآخر متاحةٌ لأنها حريات أقلية، لا تشكّل أي خطر على الأكثرية المتحكّمة والحاكمة، وليس العكس. حالياً تعيش أوروبا أزمة صعود التيار الثاني وتكاثره، وهو كابوسٌ حقيقيٌّ بات يؤرق العالم المتحضّر، ويضعه في حالة تحدٍّ لتغيير ديناميات التعاطي معه.
بعد أحداث الثمانينيات، والمجازر التي ارتكبها حافظ الأسد بحق جماعة الإخوان المسلمين، وما تلاها من ظواهر "ردّة دينية" انتشرت في المجتمعات السورية، غذّاها النظام عبر قمعه كل التجمعات الموجّهة التي ربما تحمل صبغة سياسية، وكذلك بالنسبة للتجمعات الثقافية والاجتماعية، البعيدة عن السياسة. ولكن من الممكن أن يتمخّض عنها في المستقبل حراك فكري/ سياسي، وفي الوقت عينه، أعلى من شأن الدين، كعقيدة لها أثر في المجتمع والسياسة. وبالتالي، ارتفع سقف الحريات الدينية، وتغير شكل الحزب العلماني الحاكم، ودخل النظام في حالة خلطٍ بين الدين والسياسة.
نتائج الخط الجديد المتبع كانت متعدّدة، منها: سُمح، في منتصف تسعينيات القرن الماضي، بارتداء الحجاب في المدارس، بعد أن كان محظوراً، وتحرّرت التجمعات الدينية التي كانت
لن نأتي على ذكر ممارسات أخرى عديدة لإعلاء المعتقد، وتحويله من "العفوية" التي رعاها النظام الأب، وأكمل مسيرتها ابنه في محاولةٍ للالتفاف على الشروخ الاجتماعية والفكرية التي تجذّرت في المجتمع، والأمراض التي تكاثرت، بحكم القمع الحقيقي للحريات، وتفعيل حركات إسلامية متزمتة، كان يدرك تماماً أن لها أثرا تخريبيا على وعي المجتمع.
وبالمقارنة بين تمكين العلمانية، وتحقيق شروطها التي يمكن أن تكون ليست فقط منصفة للشعوب، بل تقود الدول نحو أنظمة ديمقراطية حقيقية، فإن حالة الخلط التي أحدثها النظام في المجتمع السوري بين الدين والسياسة كانت الأكثر نجاعةً وفاعليةً وقدرةً على تحقيق مخططاته في تحويل سورية إلى "مزرعة" خاصة به، وبعائلته وحاشيته، ومن ثم ضمان سيطرته على جماعاتٍ متنافرة وتضليلها وخداعها ونهب خيرات البلد.
جاء الراحل سلامة كيلة في مؤلفه "اليسار السوري.." (2016) على مشكلة التيارين التي لعب عليها حافظ الأسد، منتقداً اليسار الذي كان في حقبةٍ قادراً على التصدي لكل المشروعات شبه الاستعمارية: "والآن، هناك لون باهت لليسار في السلطة، وآخر باهت (كذلك) في المعارضة، وهو الذي واجه الاستبداد وناضل ضد الديكتاتورية، وكان مؤملاً أن يحافظ على يساريته. هذا الوضع نتج عن التحولات التي حدثت منذ خمسينيات القرن العشرين، حينما أنتج الصراع الواقعي وصول حزب البعث عن طريق الجيش إلى السلطة. هذا الحزب الذي اتخذ
صبغةً يسارية، وهو يسعى إلى تجاوز البنى التقليدية الإقطاعية التي كانت سائدة أواسط القرن العشرين، والمدعمة من قبل الاستعمار. وكان ينزع نحو الحداثة، كتعبير عن فئات وسطى فقيرة، خصوصاً في الريف. لكن وصوله إلى السلطة فرض تحوله إلى (اليمين) خلال عملية تحويل مجتمعي قاد هو تحقيقها، بدأت بتصفية الإقطاع عبر تطبيق الإصلاح الزراعي، وتوزيع الأرض على الفلاحين، ثم وضع استراتيجية التنمية التي هدفت إلى بناء الصناعة، إضافة إلى تطوير البنية التحتية، وبالتالي أعيد تشكيل الريف طبقاً لمصلحة الفئات الوسطى بعد إزالة الإقطاع عبر تمليك الفلاحين مساحات من الأرض، كما توسعت الطبقة العاملة في ظل حقوق أساسية، حصلت عليها (العمل ثماني ساعات، الضمان الاجتماعي والتقاعد، والأجر المتناسب مع الأسعار)، وتعميم التعليم المجاني، حيث رافقت هذه العملية (وكان في قعرها) الميل للتبرجز (التحول إلى الرأسمالية) الذي حكم تلك الفئات التي وصلت إلى السلطة، والذي تحقق عبر النهب (وليس الفساد فقط) الذي طاول الفائض المتحقّق، في الإنتاج، وعبر سمسرة (الفساد). ولقد ترافق كل ذلك مع تكريس الدكتاتورية وتدمير السياسة، في المجتمع، واختراع طقوس تلهي البشر وتضلّلهم".
عندما نسمع عن الحريات في دول العالم المتقدم نتغنّى بها: أن يحظى المسلم بكل حقوقه وحرياته الإنسانية والدينية في معظم دول الغرب، من دون أن ندرك أن هذه الحريات المتاحة للتيار الآخر متاحةٌ لأنها حريات أقلية، لا تشكّل أي خطر على الأكثرية المتحكّمة والحاكمة، وليس العكس. حالياً تعيش أوروبا أزمة صعود التيار الثاني وتكاثره، وهو كابوسٌ حقيقيٌّ بات يؤرق العالم المتحضّر، ويضعه في حالة تحدٍّ لتغيير ديناميات التعاطي معه.
دلالات
مقالات أخرى
08 يونيو 2024
09 ابريل 2019
25 فبراير 2019