28 أكتوبر 2024
سورية.. لجنة دستورية من غير دستور
شكلت الجولة الأولى من أعمال اللجنة الدستورية السورية بداية الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) مفاجأة لم تكن متوقعة، فقد اتفقت اللجنة على مدونة سلوك بين وفدي النظام والمعارضة، وعلى تشكيل اللجنة المصغرة التي تضم 45 عضوا من أجل صياغة مسودة الدستور، غير أن سردية الجولة الثانية أعادت الأمور إلى نصابها الطبيعي المتوقع: وفد النظام يعطّل عمل اللجنة، ويطالب بمواضيع سياسية لا علاقة لها بصوغ الدستور، ويتهم وفد المعارضة بأنه يمثل المصالح التركية.
وفي محاولة معتادة لاستغباء الشعب الذي يرزح تحت وطأة معاناة اقتصادية وسياسية، طالب رئيس وفد النظام وفد المعارضة بالإعلان عن رفض العدوان التركي، والتمسّك بوحدة الأراضي السورية والسيادة ورفض المشاريع الانفصالية، كونها الركائز التي تهم الشعب السوري. وقد أصاب الرجل، من دون أن يدري، فالقاعدة الشعبية بالنسبة للنظام ليست سوى قاعدة مؤلفة من الدهماء والرعاع، تساق كما تساق الإبل إلى نحرها، فلا يهمّها العدالة الاجتماعية، ولا الحريات المدنية والسياسية، ولا نظام ديمقراطي يتداول السلطة بشكل سلمي، ولا حتى تحسين أوضاعها الاقتصادية، وقد بدا ذلك واضحا من خلال ردود الفعل الشعبية التي شملها استطلاع وسائل إعلام النظام، حين شكروا "سيادة الرئيس" على هذا العطاء العظيم.
يمكن تفسير التباين بين الجولتين بأحد أمرين: أن وفد النظام الذي سُمي "وفدا مدعوما من
الحكومة" اعتقد حقيقة أنه كذلك، أي أنه وفد لا يمثل النظام السوري رسميا، وبالتالي لديه هامش من الحركة، فخرج عن المسار المرسوم من دمشق، عبر تقديم تسهيلات لإطلاق عمل اللجنة. وما أن عاد الوفد إلى العاصمة السورية، حتى تلقى التوبيخ، لاعتقاده أنه يملك هامشا من التحرك.
الأمر الثاني أن التسهيلات التي قام بها الوفد في الجولة الأولى كانت مدروسة بعناية، ومخططة مسبقا لإظهار أن النظام جاد في إنجاح أعمال اللجنة الدستورية، وما جرى في الجولة الثانية مجرد خلاف حول بعض القضايا. ويمكن حصر أهداف النظام من التعطيل في اثنين:
الأول، دفع الوفد المعارض إلى اليأس، من أجل إجباره لاحقا على القبول بتعديلاتٍ بسيطةٍ، لا ترقى إلى المستوى المطلوب في إحداث تحول ديمقراطي ـ ليبرالي ـ قانوني في بنية الدستور، من شأنه إعادة إنتاج النظام عبر ديكور جديد، وعندها لن يكون للمعارضة سوى دور شكلي، كما هو حال "الجبهة الوطنية التقدمية" طوال العقود السابقة. ويصعب التكهن بمصير هذا السيناريو، ولا يمكن بناء تصور مستقبلي عنه بأثر رجعي كما فعل بعضهم، فانصياع المعارضة للضغط الخارجي للقبول بالبدء بسلة الدستور، ومن ثم القبول بوثيقة دي ميستورا (المبعوث الأممي السابق إلى سورية)، أمر مختلف إلى حد كبير عن المرحلة المقبلة، لأن المجتمع الدولي ضغط سابقا على المعارضة، للانتقال بموقفها من اليمين إلى الوسط، ولم يطالبها بالانتقال إلى الضفة الأخرى المقابلة والاستسلام.
الثاني، نقل المفاوضات الجدية حيال الدستور إلى سوتشي أو أستانة، وقد عبر عن ذلك أخيرا نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حين أعرب عن أمله في أن تشهد الجولة
المقبلة من محادثات أستانة مشاركة وفدي النظام والمعارضة في اللجنة الدستورية. وقد تناول وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، هذه المسألة مع نظيره التركي، مولود جاووش أوغلو، في جنيف، ولا يبدو أن أنقرة بصدد معارضة هذه الخطوة، لأنها تبقي على مسار أستانة، ولأن تركيا بحاجة إلى روسيا في ملفي إدلب وشرق الفرات.
ومع أن النظام لا يحبذ مسار جنيف، فإنه في المقابل لا يحبذ مسار سوتشي أو أستانة، وإن أظهر غير ذلك، فهو يخشى من مسار فرعي للجنة الدستورية تحت العباءة الروسية، لأن موسكو بدت جادّة في ضرورة تقديم النظام تنازلاتٍ حيال الدستور، إنها رغبة روسية دائمة في استثمار نجاحاتها العسكرية على المستوى السياسي، والتأكيد أنها وحدها القادرة على ممارسة ضغوط فعلية على دمشق، غير أن لدى الأخيرة حسابات أخرى، فهي ليست في وارد تقديم تنازلاتٍ جدّيةٍ تؤثر مستقبلا في البنية الدستورية، وبالتالي السياسية، في منظومة الحكم، فالمطلوب لجنة دستورية من غير دستور حقيقي يشكل قاعدة قانونية للانتقال السياسي. وتنطلق هذه الحسابات من قراءة سياسية مفادها أن من شأن تمرير الوقت سنوات أن يفرض وقائع على الأرض، ويدفع المجتمع الدولي إلى القبول بالنظام أمرا واقعا، شرط القيام بتنازلات سياسية إقليمية وتنازلات ليبرالية داخلية. وفي مقابلاته الأخيرة واللافتة للانتباه في توقيتها، بدا كلام الأسد يعكس حالة الافتراق بينه وبين صناع القرار في موسكو حيال الحل الدستوري، وهو ما دفع الروس إلى توجيه رسائل غاضبة ولاذعة، عبر كتّاب مرتبطين مباشرة بالخارجية الروسية. ذلك أن أعمال اللجنة الدستورية أول اختبار جدي وحقيقي لقدرات موسكو في ممارسة الضغوط المطلوبة على النظام السوري، وستكشف المرحلة المقبلة ما إذا كانت موسكو فعلا تتحكّم بالقرار السياسي في دمشق كما يعتبر بعضهم، أو أن لتدخلها حدودا لا تستطيع تجاوزه كما يرى آخرون.
يمكن تفسير التباين بين الجولتين بأحد أمرين: أن وفد النظام الذي سُمي "وفدا مدعوما من
الأمر الثاني أن التسهيلات التي قام بها الوفد في الجولة الأولى كانت مدروسة بعناية، ومخططة مسبقا لإظهار أن النظام جاد في إنجاح أعمال اللجنة الدستورية، وما جرى في الجولة الثانية مجرد خلاف حول بعض القضايا. ويمكن حصر أهداف النظام من التعطيل في اثنين:
الأول، دفع الوفد المعارض إلى اليأس، من أجل إجباره لاحقا على القبول بتعديلاتٍ بسيطةٍ، لا ترقى إلى المستوى المطلوب في إحداث تحول ديمقراطي ـ ليبرالي ـ قانوني في بنية الدستور، من شأنه إعادة إنتاج النظام عبر ديكور جديد، وعندها لن يكون للمعارضة سوى دور شكلي، كما هو حال "الجبهة الوطنية التقدمية" طوال العقود السابقة. ويصعب التكهن بمصير هذا السيناريو، ولا يمكن بناء تصور مستقبلي عنه بأثر رجعي كما فعل بعضهم، فانصياع المعارضة للضغط الخارجي للقبول بالبدء بسلة الدستور، ومن ثم القبول بوثيقة دي ميستورا (المبعوث الأممي السابق إلى سورية)، أمر مختلف إلى حد كبير عن المرحلة المقبلة، لأن المجتمع الدولي ضغط سابقا على المعارضة، للانتقال بموقفها من اليمين إلى الوسط، ولم يطالبها بالانتقال إلى الضفة الأخرى المقابلة والاستسلام.
الثاني، نقل المفاوضات الجدية حيال الدستور إلى سوتشي أو أستانة، وقد عبر عن ذلك أخيرا نائب وزير الخارجية الروسي، ميخائيل بوغدانوف، حين أعرب عن أمله في أن تشهد الجولة
ومع أن النظام لا يحبذ مسار جنيف، فإنه في المقابل لا يحبذ مسار سوتشي أو أستانة، وإن أظهر غير ذلك، فهو يخشى من مسار فرعي للجنة الدستورية تحت العباءة الروسية، لأن موسكو بدت جادّة في ضرورة تقديم النظام تنازلاتٍ حيال الدستور، إنها رغبة روسية دائمة في استثمار نجاحاتها العسكرية على المستوى السياسي، والتأكيد أنها وحدها القادرة على ممارسة ضغوط فعلية على دمشق، غير أن لدى الأخيرة حسابات أخرى، فهي ليست في وارد تقديم تنازلاتٍ جدّيةٍ تؤثر مستقبلا في البنية الدستورية، وبالتالي السياسية، في منظومة الحكم، فالمطلوب لجنة دستورية من غير دستور حقيقي يشكل قاعدة قانونية للانتقال السياسي. وتنطلق هذه الحسابات من قراءة سياسية مفادها أن من شأن تمرير الوقت سنوات أن يفرض وقائع على الأرض، ويدفع المجتمع الدولي إلى القبول بالنظام أمرا واقعا، شرط القيام بتنازلات سياسية إقليمية وتنازلات ليبرالية داخلية. وفي مقابلاته الأخيرة واللافتة للانتباه في توقيتها، بدا كلام الأسد يعكس حالة الافتراق بينه وبين صناع القرار في موسكو حيال الحل الدستوري، وهو ما دفع الروس إلى توجيه رسائل غاضبة ولاذعة، عبر كتّاب مرتبطين مباشرة بالخارجية الروسية. ذلك أن أعمال اللجنة الدستورية أول اختبار جدي وحقيقي لقدرات موسكو في ممارسة الضغوط المطلوبة على النظام السوري، وستكشف المرحلة المقبلة ما إذا كانت موسكو فعلا تتحكّم بالقرار السياسي في دمشق كما يعتبر بعضهم، أو أن لتدخلها حدودا لا تستطيع تجاوزه كما يرى آخرون.